أمام أعضاء مؤتمر الرياض للمعارضة السورية مهمات وصعوبات عديدة، جرى الحديث عنها بإسهاب وتفصيل، وقدمت من أجل مواجهتها أوراق مهمة ومفيدة. ولا شك أن الكتل والمنظمات والشخصيات المشاركة تدارست ذلك وغيره، كما أنه تراكم لديها الخبرة الكافية والمريرة خلال تجربة السنوات الخمس العجاف من عمر الثورة السورية، بما عرفته من مؤتمرات وحوارات، وما مرت به من ضغوط وصراعات، ويفترض بهم أن يكونوا على قدر من المسؤولية والأهلية، لأن يتوصلوا إلى توحيد رؤيتهم بشأن مفاوضات المرحلة الانتقالية، وربما من أجل تشكيل وفد المعارضة إلى المفاوضات المرتقبة.
لكن، بموازاة كل الضجيج والآمال المعقودة على تلك المفاوضات، والمنطلقة من القرار الدولي بعد مؤتمر فيينا، يمكن ملاحظة ما نعنونها، اليوم، بالمرحلة الروسية في الصراع السوري.
وليس ذلك مرتبطا فقط بما هو واضح من شدة التدخل العسكري الروسي الذي بدأ مع هجمات سلاح الجو الروسي وقاذفاته منذ أكثر من شهرين، ثم تطور، أخيراً، مع نشر صواريخ إس 400، وضمن منظومة دفاع جوي روسية غطت سماء سورية، بعد إسقاط سلاح الجو التركي الطائرة الروسية، والتي حولت سورية إلى ما هو أشبه بالمنطقة الروسية الآمنة.
بل إنه مرتبط كذلك بعمل حثيث وبطيء ومتدرج، يتمثل في موجة جديدة من بدء سريان هدن أو اتفاقات على طريق تنفيذ هدن في مناطق سورية متعددة، لطالما كانت، فترات طويلة، خاضعة لحصار الجوع أو الركوع، بدءاً من ريف دمشق وغوطتها إلى الوعر في حمص وغيرها، والذي طالما سكت المجتمع الدولي عن جريمة هذا الحصار الموصوفة في القانون الدولي، ضمن ما سكت عنه من سلسلة جرائم النظام السوري وحلفائه.
وإن كانت هذه الموجة الجديدة من الهدن استمراراً لاستراتيجية النظام في القضاء على بؤر الثورة، وإخماد شعلتها في حمص وداريا والزبداني وغيرها، تحت شعارات التهدئة والمصالحة، وسبق أن اندرجت، في إطار تدخل إيراني هامشي، يتلطى وراء مشاركة حزب الله وبعض القوى العسكرية. ودلّ على ذلك مشاركة المندوبين الإيرانيين في مفاوضات حمص القديمة والوعر، والزبداني، لكن حلول المندوب الروسي في مفاوضات الغوطة الأخيرة ارتبط بنقلة جديدة أعلى في مستوى تدخل حلفاء النظام وتحكمهم بمسارات الصراع السوري وتوظيفاته، بل صار يجري في إطار استراتيجية روسية أعلى، بدأت ترسم دولياً ملامح الحل السياسي منذ مؤتمر فيينا. وللمقارنة، لم يكن للحليف الإيراني مثل هذا التدخل والسيطرة، كما لم يكن لديه مثل هذا الموقع في توجيه الاستراتيجية الدولية، وهذا هو الفرق الأكثر أهمية.
قد يقال إن لا جديد في الأمر، وإن تلك الهدن تندرج، أيضاً، في سياق سعي مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي مستورا، إلى توظيف التهدئة والمصالحات المحلية في سياق استراتيجية جنيف/ فيينا. لكن، إذا لاحظنا أن مساعي المندوب الأممي لا تملك أكثر من قوة بيانات الأمم المتحدة وقراراتها، على عكس القوة الروسية التي هيمنت على المجال العسكري السوري، بموازاة مبادراتها السياسية في إطار التحالف الجديد ضد الإرهاب. وعليه، فإن السياق الذي تجري فيه تلك الهدن، إنما هو سياق وقائع المرحلة الروسية الجديدة التي تتغيير موازين القوى فيها ميدانياً، وعلى مختلف المستويات عسكرياً وجغرافيا، والذي سيستكمل السيطرة على من تبقى من السوريين المنهكين جوعاً وقهراً، بينما استكملت الهجمات الإرهابية المشبوهة تحشيد التحالف الدولي الجديد. والذي تمكنت روسيا والنظام خلفها من حجز دوريهما فيه، مع ما رافقه من دعواتٍ غربيةٍ جديدة إلى لغة خلاقة بخصوص رحيل الأسد، وإلى الاستفادة من الجيش السوري في محاربة الإرهاب.
هذا التطور يعني أن الصراع في سورية وعليها ما زال مستمرا وعلى أشده، وليس الخلاف الروسي التركي إلا أحد جوانبه المفتوحة. ولن تكون المفاوضات، إذا بدأت، إلا حلقة جديدة من حلقاته التي يبدو أنها ما زالت طويلة ومستمرة، وقد انخرطت فيه قوى عظمى، تجد حكوماتها في مشاركتها فيه، لا دفاعاً عن حصصها ومصالح بلدانها فقط، بل وجهاً من وجوه صراعاتها السياسية الداخلية أيضا، كما هو متجلٍّ بصورة حادة في أوروبا اليوم.
تتطلب هذه الرؤية المفتوحة للصراع من مؤتمر المعارضة في الرياض لا أن يكتفي بتوحيد رؤيته ووفده حول المرحلة الانتقالية ومفاوضاتها، وهو أمر مهم، وسبق أن تقاربت رؤى مختلف فصائلها حوله، بل أن يرتفع إلى مستوى مواجهة المرحلة الطويلة التالية من الصراع، ويلبي حاجة طال انتظارها، وهي أن لا يكون انعقاده أمراً استثنائياً وعابراً، واستجابة لضغوط الآخرين، بل أن يتجاوز ذلك إلى تشكيل مرجعية مستقرة للثورة السورية، يمكنها أن تتفرغ نهائيا للثورة ومقتضياتها، فتمكث مثلا في مكان واحد، لعله يكون في الأراضي المحررة أو بجانبها، بدل أن يستمر ممثلو الثورة مهاجرين ومتنقلين بين العواصم، وأصحاب مناصب بلا مؤسسات. وكي يتوحد التمثيل، أخيراً، بدلا من هذا الانفصام الزائف والمستمر بين معارضتين، داخلية وخارجية.
وضداً عما هو شائع من تذرّر وانقسام في الجماعة السورية، ورداً نهائياً على حجة النظام وحلفائه، بكونه طرفاً موحداً، في حين يفتقد الطرف الموحد المعارض، فهل يمكن للمؤتمرين أن يتعالوا على ذاتياتهم وانقساماتهم وروابطهم المناطقية والحزبوية، وأن يرتقوا إلى ما هو أرفع في تمثيل الثورة السورية، فيستقيلوا جميعاً من أوهام ونزوعات الفرد والرئيس، الذي طالما حشرت واختصرت فيه الشخصية السورية، كي يتوافقوا على مرجعية تسير بالثورة إلى بر أمان المرحلة الانتقالية، حيث يتولى البرلمان الحر القادم انتخاب القيادة التالية، وتخوض البلاد تجربتها الديمقراطية، بما فيها من آلام التجربة والعدالة الانتقالية، وبما ستعانيه من صعوبات إعادة الإعمار والبناء.
إنتاج المرجعية الموحدة هو الحاجة الرئيسة في الثورة السورية، وهو ما تستحقه اليوم، أكثر من أي وقت مضى، ثورة الشعب السوري وتضحياته التي فاقت كل ما عرفته الثورات الأخرى.
المصدر : العربي الجديد