مقالات

حسان القالش – سورية: وداع المقاومة

يسجل التاريخ اليوم أن سورية، قلب العروبة النابض، قد تكسّرت على أرضها أوهام تلك العروبة بما تعنيه من إيثار مَرَضيّ وما ارتبط بها من تاريخ طويل لغسيل العقول كرمى للقضايا الكبرى.

بيد أن هناك ما هو أكثر صلابة وتجذّراً ما زال يتكسّر يومياً على الأرض السورية ويتمثل بالمقاومة، ليس بمفهومها المبسط الدّال على رغبة الشعوب في دفع الظلم عنها أيّاً كان هذا الظلم ومن أين أتى، بل المقاومة كأيديولوجيا وثقافة معمّمة وتغييب للعقل وإنكار للذات الوطنية وغيرها من المصائب التي ابتكرتها وجذّرتها أنظمة مستبدّة كنظام الأسد ونظام الملالي في إيران.

وإلى جانب ذلك، أدّى تكسّر مفهـــوم المقاومة إلى انكسار صورة السوريين عن أنفسهم وإدراكهم ذواتـــهم بوصفهم الشعب العروبي الأول بامتياز، المنتفخ بــوطنيــة تزاود على أوطان الآخرين وتعمى عن الوطن الأم، وبـــكونهم طليعة المدافعين عن قضايا تـــلك العروبــة بما تــقتضيـه من مقاومة، لتحل مكانها صورة أخرى عن شعب تمت خيانته، وطُعن في ظهره، أو عن شعب يستفيق من كل تلك الأوهام.

هنا، تبرز دلالات وعبر اغتيال سمير القنطار في سورية قبل أيام. فالرجل الذي ضحّى السوريون، راغبين أحياناً ومرغمين أحياناً أكثر، بحقوقهم وكراماتهم ومستوى عيشهم كرمى لقضيّته التي آمن كثيرون منهم بها، واستقبلوا في 2006 جمهورها من دون اعتبار لانتمائهم الطائفيّ ومن دون أن يعاملوهم كلاجئين أو نازحين، قد قضى نحبه على أرض هؤلاء السوريين، لا كصديق بل كقاتل لهم وعدو أشد عنفاً وقـهراً من عـدو العروبة والمقاومة الأول المفترض، فضلاً عن تميّزه، هُو والمقاومة التي يمثل، وقبلهم النظام الذي دعاهم إلى مشاركته في القتال، بمستوى من الكراهية والطائفية رفعت مستوى العنف والقتــل ليلامس مستوى أفظع ما شهده العالم المعاصر من مجازر وإبادات.

والحال أنّ هناك ما يشبه لعنة تتربّص منذ زمن بعيد بالسوريين وبأرضهم، هي لعنة إنكار الذات وإنكار الوطن، أو ربما احتقار الذات والوطن سعياً وطمعاً بذات أوسع وبوطن أكبر. على أن ما يبرر تسمية هذه المصيبة باللّعنة هو استمرار وجودها وظهورها في أكثر من شكل عبر تاريخ سورية الحديث، بدءاً بصدمة السوريين وجيشهم الفتيّ في 1949 وبحكومتهم التي تاجرت بعواطفهم تجاه فلسطين وخيّبت أملهم في تحريرها، مروراً بالوحدة مع عبدالناصر وصولاً إلى حكم البعث وآل الأسد، ومن ثمّ صدمتهم بالمقاومة التي طالما احتفوا بها.

بهذا، تكون الثورة السورية جاءت لتجرف كل تلك الأوهام وتشكل الصدمة الأولى على طريق شفاء سورية من أمراضها، الأمر الذي يحتاج أيضاً إلى دفن قلب العروبة، أو قتله قتلاً رحيماً، كي ينبض قلب بلد طبيعي يعيش فيه السوريون حياة طبيعية خالية من أوهام العروبة والمقاومة.

المصدر : الحياة 

زر الذهاب إلى الأعلى