منذ الثورة التي أطاحت نظام الشاه محمد رضا بهلوي في إيران عام 1979، والعلاقات السعودية الإيرانية تشهد، لأسباب مختلفة، حالات من التوتر والتصعيد. بعض هذه الأسباب مرتبط بتوجهات النظام “الثوري” في طهران، السياسية والأيديولوجية، وانعكاساتها على العلاقات الثنائية السعودية –الإيرانية، وبعضها الآخر مرتبط ببنية النظام الإقليمي، وسعي طهران إلى تغييره بما يتوافق مع مصالحها؛ تارة عبر محاولة “تصدير مشروع الثورة”، وإحلال أنظمة حليفة لها، عوضاً عن الأنظمة القائمة، وتارة بمحاولة التمدد والهيمنة من خلال اختراق مجتمعات الدول المجاورة، ومخاطبة الجانب الوجداني عند العرب الشيعة، بعد أن قدمت نفسها حامية للمذهب حول العالم، ومرجعاً سياسياً (وفقهياً) وحيداً له.
صدمة التعاطي الأميركي
وبمقدار ما مثلت بخطابها وسلوكها السياسي الجديد تحدياً كبيراً للسعودية، مثلت الثورة الإيرانية لجهة التعاطي معها أميركياً صدمة من ناحية أخرى، إذ شهدت الرياض، وفي عز أيام الحرب الباردة والمواجهة مع الاتحاد السوفييتي، كيف تخلت واشنطن عن حليفٍ بأهمية شاه إيران، من أجل الحفاظ على مصالحها الحيوية في هذا البلد الذي وصف وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، خسارته في عام 1979 بأنه “أكبر نكسة استراتيجية لحقت بالمصالح الأميركية في فترة الحرب الباردة”.
كما تابعت الرياض، بقلق بالغ، المداولات التي كانت تجري في إدارة الرئيس جيمي كارتر، والسجال الذي نشب بين الخارجية الأميركية، ممثلة بالوزير سايروس فانس، الذي كان يفضل التخلي عن الشاه، وفتح خطوط مع القوى الثورية في إيران، لا بل وحتى تشجيع حصول انقلاب عسكري يطيح الشاه، ويسمح بتشكيل حكومةٍ تعيد الاستقرار، وتحافظ على علاقات قوية مع واشنطن، وبين مجلس الأمن القومي، ممثلاً بمستشار الرئيس، زبغينو بريجنسكي، الذي دافع عن فكرة دعم نظام الشاه حتى “آخر قطرة دم ايرانية”، باعتبار أن خلاف ذلك يعطي إشارات سلبية للحلفاء في المنطقة حول مدى التزام أميركا بأمنهم واستقرارهم. طبعاً تغلبت، في النهاية، وجهة نظر وزارة الخارجية، لانسجامها مع سلوكٍ نفعي متأصل في الفعل السياسي عموماً، والأميركي خصوصاً، حيث قرّر الرئيس كارتر إرسال وزير العدل السابق رمزي كلارك إلى باريس، للقاء الخميني، وعرض عليه اعتراف واشنطن بالنظام الجديد في طهران، والاستعداد لاستئناف صادرات الأسلحة إليها، بموجب العقود المبرمة مع نظام الشاه. وافق الخميني، واستؤنفت صادرات الأسلحة عبر إسبانيا، لكن موافقة كارتر على استقبال الشاه في الولايات المتحدة لأسباب صحية وإنسانية، والصراع الداخلي الذي نشب في إيران بين القوى التي شاركت في الثورة، والمزايدات في العداء لأميركا، وانتشار شائعات تتهم المخابرات الأميركية بالتحضير لثورة مضادة، تشبه الانقلاب الذي أطاح حكومة محمد مصدّق عام 1953، دفعت قيادات الحركة الطلابية إلى اقتحام السفارة الأميركية في طهران، وأخذ دبلوماسييها رهائن، ما قضى على أي إمكانية لإصلاح العلاقات.
كانت السعودية تتابع هذه المناقشات عن كثب، وما زاد من شكوكها في الموقف الأميركي أن سرب طائرات الـ إف 15 التي أرسلها كارتر على عجل لطمأنة السعودية، بعد انتصار الثورة في إيران، تبين أنها لم تكن تحمل أي ذخائر صاروخية، ما يعني أن إرسالها كان عملاً دعائياً وليس دعماً جدّياً. ولم تتبدّد هذه الشكوك، إلا عندما جاء الرئيس رونالد ريغان، وقرّر على الرغم من معارضة الكونغرس، الموافقة على بيع السعودية سرب طائرات أواكس عام 1981.
محاولات متعثرة لتجاوز الخلاف
وعندما اندلعت الحرب العراقية-الإيرانية، سارع السعوديون إلى دعم العراق لمواجهة سياسات طهران التي مثلت تحدياً أكبر مما مثّله المد القومي في فترة المواجهة مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر، لأنها جاءت بخطاب ثوري بلبوس ديني حاول، أول الأمر، تجاوز التمايز الطائفي، بغية الانتشار والتأثير، لكنه لم يلبث أن ارتكس ليركّز على بناء النفوذ بين الأقليات الشيعية في دول المنطقة. حصلت في هذه الفترة أزمات عديدة في العلاقات الثنائية، أهمها حادثة الحج عام 1987، عندما تظاهر الحجاج الإيرانيون خلال موسم حج ذلك العام، ما أدى إلى مواجهات عنيفة مع قوات الأمن السعودية، سقط فيها كثيرون، وقطعت على إثرها العلاقات الدبلوماسية.
خلال التسعينيات، تفاوتت العلاقات بين البلدين، فكانت تتحسن تارة وتسوء أخرى، إذ جرت استعادة العلاقات الدبلوماسية عام 1991 نتيجة الغزو العراقي للكويت، لكن الأمور عادت وساءت، بعد اتهام الرياض طهران بالمسؤولية عن تفجيرات في الخبر وقعت عام 1996، وتبين أنها تمت بواسطة مواد تم تهريبها من لبنان. تحسّنت العلاقات مرة أخرى، مع وصول الرئيس محمد خاتمي إلى السلطة عام 1997 وتبنيه سياسة انفتاحية، هدفها التخلص من حال العزلة والعقوبات التي فُرضت على إيران، بموجب سياسة الاحتواء المزدوج التي اتبعتها إدارة الرئيس بيل كلينتون نحو العراق وإيران، منذ وصولها إلى الحكم عام 1993، وبلغت ذروتها بإصدار الكونغرس “قانون داماتو” الذي فرض عقوبات شديدة على قطاع النفط الإيراني عام 1995. وقد أدرك خاتمي أن الطريق إلى واشنطن لا بد أن يمر بمحطة الرياض، فسعى إلى تحسين العلاقات مع السعودية التي كانت محطته الخارجية الأولى في مايو/ أيار عام 1999، لكن اشتداد وطأة الخلافات الداخلية، خصوصاً بعد أحداث جامعة طهران في يوليو/تموز 1999 لم تسمح بتقدم كبير في العلاقات الثنائية، واستمر الحال كذلك، حتى وقعت أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة، وغيرت المشهدين، الإقليمي والدولي.
وفي وقت كانت تشهد فيه العلاقات السعودية – الأميركية توتراً، إثر محاولات لتحميل السعودية المسؤولية عن هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، باعتبار أن 15 من أصل 19 من المنفذين كانوا سعوديين، سارعت إيران إلى استغلال الموقف، وعرضت تعاونها على واشنطن في “الحرب على الإرهاب”. ولم تتأخر طهران عن تقديم كل أشكال المساعدة للولايات المتحدة، لتخليصها من خصميْها اللدوديْن: في الشرق نظام طالبان في أفغانستان، وفي الغرب نظام الرئيس صدام حسين في العراق. وعلى الرغم من أن إدارة الرئيس جورج بوش الابن تنكّرت لطهران بعد ذلك، على الرغم من مساعدتها “القيّمة” في غزو أفغانستان، عندما سمحت باستخدام مجالها الجوي لنقل جنود ومعدات أميركية لدعم تحالف الشمال الذي كان يقوده أحمد شاه مسعود ضد حكم طالبان. وكذلك في غزو العراق، عندما مهد حلفاؤها من أحزاب ومليشيات الطريق أمام الأميركان للوصول إلى بغداد، إلا أن طهران ظلت، مع ذلك، المستفيد الأكبر من سياسة إدارة بوش الابن، في حين تحملت السعودية أفدح الأضرار منها.
العشرية السوداء 2005-2015
شكلت فترة رئاسة خاتمي خيبة أمل كبيرة داخل إيران وخارجها، إذ فشل الرجل، خلا إثارة بعض الضجيج عن إصلاحاتٍ لم تتحقق، في إحداث أي تغيير يذكّر به، سواء بين خصومه أو حلفائه، ما فتح الطريق أمام وصول التيار الأصولي إلى السلطة، بزعامة أحمدي نجاد الذي قاد؛ مستفيداً من التغير الاستراتيجي الكبير الذي طرأ في المنطقة، بفعل التدخل العسكري الأميركي في العراق وأفغانستان؛ انعطافة شديدة في سياسات إيران الإقليمية. وبعد فشل شعارات تصدير الثورة، واضطرار الخميني في يوليو/ تموز 1988 إلى “تجرّع كأس السم”، كما قال، بقبوله وقف إطلاق النار مع العراق، وفق قرار مجلس الأمن رقم 598، عاد التيار الأصولي، يتقدمه أحمدي نجاد، يروج، هذه المرة، ليس لتصدير الثورة الإسلامية إلى الجيران، كما كان عليه الحال أيام الخميني، إنما لإنشاء مشروع قومي امبراطوري يمتد من أفغانستان إلى البحر المتوسط، وتكون أدواته مليشيات وأحزاباً وطوائف في منطقةٍ لا تعدم ركائزها، أو القابلية لها.
وفور وصوله إلى السلطة، قرّر نجاد استئناف تخصيب اليورانيوم الذي كان محمد خاتمي أوقفه عام 2003، بعد أن اعترفت حكومته بصحة ادعاءات المعارضة الإيرانية عن وجود برنامج نووي سري. كانت خطة أحمدي نجاد، وحلفائه في الحرس الثوري، تقوم على إشغال الغرب والمنطقة بتفاصيل البرنامج النووي ونيات إيران حياله، في وقت كان يجري فيه العمل الدؤوب على إنشاء قوس نفوذ إيراني، يمتد شمال شبه الجزيرة العربية، ويشمل كامل الهلال الخصيب، وصولاً إلى البحر المتوسط. لا بل بلغت أحلام طهران، بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، حد الحديث عن إمكانية ضم مصر إلى هذا القوس. لكن الثورة السورية أفسدت على إيران أحلامها، وأيقظتها على واقع مختلف عن الذي كانت تخطط له.
اتسم السلوك السعودي، في بداية هذه الفترة، بسلبية كبيرة، إذ انشغل السعوديون، أول الأمر، بدفع الاتهامات عن أنفسهم بدعم الإرهاب، فتُرك العراق يسقط في يد إيران، بعد أن تولت الآلة العسكرية الأميركية تدمير قدراته ومؤسساته والقضاء على مقاومته. وعندما كان الأميركيون ينسحبون، تاركين العراق في عهدة المليشيات والقوى الحليفة لطهران، اكتشفت السعودية أنها تفتقد إلى أدوات التأثير على الأرض، بيد أن ذلك لم يغير الكثير، إذ اقتصر رد الفعل على مراقبة ملء إيران الفراغ، وكأن الأمر يحدث في أميركا الجنوبية.
وعندما اندلعت ثورات الربيع العربي، ركزت السعودية على منع تيارات الإسلام السياسي من الوصول إلى السلطة في مصر وتونس واليمن، أكثر مما ركّزت على استفحال التغلغل الإيراني في أرجاء المنطقة. وعندما قرعت الأجراس، بعد استيلاء الحوثيين على أكثر اليمن، وإعلان الملالي، بسقوط صنعاء، سيطرتهم على أربع عواصم عربية، كانت طهران قد أبرمت صفقة الاتفاق النووي مع واشنطن، وقدّمت نفسها شريكاً في الحرب التي أعلنها أوباما على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق وسورية.
الرد السعودي والمواجهة المباشرة
بعد سقوط صنعاء، شعرت السعودية أن إيران أطبقت عليها الحصار، ففي الشمال، تتحكم طهران بالقرار في دمشق وبغداد وبيروت، كما غدت تحكم صنعاء في الجنوب، وتستمر في محاولات السيطرة على البحرين، وزعزعة استقرار بقية دول الخليج (خلية حزب الله في الكويت مثلاً). وما زاد الطين بلة أن السعودية باتت غير واثقة من توجهات الحليف المصري، ومناوراته السياسية بين موسكو وطهران وبغداد ودمشق وصنعاء، كان ذلك كله يحدث، في وقتٍ بدأت فيه الولايات المتحدة تنتقل من دور الحليف إلى دور الوسيط الموازن في العلاقة بين طهران والرياض، وصار على السعودية، من الآن فصاعداً، أن تتحمل القسط الأكبر من أعباء الدفاع عن أمنها ومصالحها، لأن الحليف الأميركي ما عاد في وارد القيام بذلك، إلا إذا تعرّضت مصالحه هو للخطر.
بناء عليه، قررت السعودية، وقد تولت أمورها قيادة جديدة أكثر حزماً، أن تنتقل نحو سياسة هجوميةٍ، لا تتردد في استخدام القوة والتدخل العسكري المباشر (Aggressive Foreign Policy)، فأطلقت عاصفة الحزم في اليمن، وانتزعت السودان من يد إيران، وانخرطت في اللعبة السياسية في العراق، فاستقبلت رئيس حكومة إقليم كردستان، مسعود البرزاني، وأرسلت سفيراً إلى بغداد، وتخلت عن تحفظاتها على فصائل المعارضة الإسلامية في سورية، فدعت أكثرها إلى مؤتمر الرياض، وذهبت باتجاه تعاون استراتيجي مع تركيا، متجاهلة المواقف الأميركية من أكثر هذه القضايا، فطالما أن أميركا انتقلت من وضع الحليف إلى وضع الوسيط، لم يعد ثمّة من حاجةٍ لمعاملته بغير صفته الجديدة التي ارتضاها لنفسه.
شكلت السياسة السعودية الجديدة مفاجأة كبيرة لإيران التي اعتادت التصرف وفق النظرة التقليدية للسعودية، بأنها خصم يعوزه الحزم، ويسيطر على تحركاته التردد وقلة الإقدام، أما السعودية فلم يكن أمامها من خيار آخر غير ترتيب أوراقها، والانتقال من سياسة الإحجام إلى سياسة المواجهة المباشرة. وما قضية المعارض السعودي، نمر النمر، وكل التباساتها والمواقف منها، إلا تفصيل صغير في مواجهةٍ غدت شاملة ومفتوحة بين السعودية وإيران على امتداد الإقليم. وقرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران بهذه الطريقة هو رسالة أخرى، المقصود بها القول إنه لم يعد ممكناً السكوت على السلوك الإيراني، بعد أن وصل “السكين إلى العظم”، وأن السعودية غدت مستعدة لكل الاحتمالات، بما فيها احتمال المواجهة العسكرية المباشرة مع إيران.
يبقى القول إنه لولا العامل الأميركي لما أخذت الأمور هذا المنحى، فلولا الغزو الأميركي للعراق واللامبالاة تجاه ما يجري في سورية، والاندفاع نحو استرضاء إيران، للتوصل إلى اتفاق ينهي الجدل حول برنامجها النووي، لما تمددت إيران بهذه الطريقة، ولما أتيح لها فرصة اختراق دول المنطقة، واتباع سياسات تفكيك ممنهج لدولها، وإقامة مليشيات تابعة لها تحكمها. لكن، والحق يقال، إنه لولا تغير السياسة الأميركية أيضاً لبقيت السعودية معتمدة على الحماية الخارجية، ولما اضطرت إلى تبني سياسةٍ خارجيةٍ وأمنيةٍ أكثر استقلالاً، تراعي مصالحها هي، قبل أي شيء آخر.
عقوداً طويلة، ظلت إيران تتصرف من خلال نزوعها إلى الهيمنة دولة غير طبيعية، كما أن السعودية، بالاعتماد على الحماية الخارجية، كانت تتصرّف، هي الأخرى، دولة غير طبيعية. أما وقد عادت السعودية إلى انتهاج سياسة دولة طبيعية، تتولى بنفسها الدفاع عن مصالحها، فقد يسهم ذلك في دفع طهران إلى التصرف أيضاً دولة طبيعية، وقد أدركت أن محاولاتها السيطرة على المنطقة سوف تتم مواجهتها، والتصدّي لها، ومن دول المنطقة، وليس من “الشيطان الأكبر” الذي صدّعت إيران رؤوسنا بزعم مواجهته. الملفت أن شرط انتهاج السياسة السعودية الجديدة كان الخروج من تحت العباءة الأميركية، في حين أن شرط السياسة الإيرانية الجديدة قد يكون التلحف بها.
المصدر : العربي الجديد