لم يكن طارح الأسئلة على الطفل السوري (محمد) الجائع في بلدة مضايا بحاجة لأن يلح على الصغير أن يحلف بالله أنه يتضور جوعا، ليسارع الصبي ويحلف «والله العظيم أنا جوعان» مرفقا حلفانه هذا بنظرات ساهمة واعتراف ذليل بأنه يحلم بالطعام.
لم نكن بحاجة إلى هذه الطريقة في سؤال محمد لنتأكد من أنه يتوق لأن يأكل كسرة خبز. فوجهه الذابل وعظامه الناتئة من جسده وصوته وملامحه كفيلة بإيصال الألم الذي يعتصر أمعاءه، فكان الأجدى عدم الإمعان في انتهاك آدميته لإثبات انحيازنا أكثر مما فعل الحصار نفسه.
نعم، لقد باغتتنا صور أهالي مضايا وأهانت صمتنا وعجزنا الذي يبدو أننا تآلفنا معه واعتدنا عليه، فلم يعد يهزه شيء. للوهلة الأولى، تخيلتها مجموعة جديدة من الصور المسربة عن ضحايا النظام السوري في المعتقلات والسجون، التي رأيناها العام الماضي، لكن تبين أن الصور هي لضحايا جدد، منهم من مات وقضى جوعا، ومنهم من لا يزال يتضور وينازع، جراء حصار محكم يمارسه النظام السوري وقوات حزب الله للمدينة. هذه القوى تحاصر البلدة منذ أشهر، جرى خلالها منع أي شخص من الخروج لإحضار مواد غذائية. وهذا الحصار هو تتويج لفضيحة الاتفاق الأخير بين المعارضة المسلحة من جهة والنظام وحزب الله من جهة أخرى، الذي قضى بعملية ترانسفير مذهبي بائسة شهدنا فصولها في الأيام الأخيرة من العام المنصرم، وها نحن نشهد فصولا مؤلمة جديدة لها في بداية العام الجديد.
شيئا فشيئا بدأت الأنباء تتواتر ومعها الصور والفيديوهات ومعلومات عن مبالغ خيالية لقاء شراء المؤن، وعن اضطرار الأهالي لذبح القطط وأكلها أو أكل الأعشاب وكل ما يمكن هضمه، في منازعة مريرة للبقاء أحياء. منظمة الغذاء العالمي وعبر مقابلات لممثليها على الإعلام أشارت إلى أن التجويع سياسة ممنهجة يمارسها النظام والمعارضة، وأقرت بأن مضايا هي أكثر البلدات معاناة على هذا الصعيد.
مرة جديدة يحرج الإعلام الغربي إعلام الممانعة العربي. فطبعا، لا إعلام النظام ولا إعلام حزب الله معني بالأمعاء الخاوية في مضايا، بل هناك تجاهل تام لها، لكن مع بدء انتشار صور من ماتوا جوعا أو من لا زالوا يعانون، شرع ذاك الإعلام في شهر لواء حصار بعض أطراف المعارضة المسلحة لمناطق سورية أخرى مثل كفريا والفوعة.
أن يحاصر حزب الله بلدة سورية وأن يساهم فعليا في قتل أهلها جوعا، حقيقة لا يرد عليها بالقول إن قوات المعارضة تحاصر كفريا والفوعة، وإن حصار مضايا هو رد على حصار آخر. فهذه المعادلة الهزيلة التي يطرحها أصحابها دفاعا عن النظام وعن الحزب في قتلهم السوريين لا تفعل سوى أن تساوي بين قتلة، وإن كانت لا تزال كفة النظام ومعه حزب الله راجحة بما لا يقاس، لجهة عدد الضحايا وشراسة المواجهة.
وبالنسبة لحزب الله، فالإدانة مضاعفة. يوما بعد يوم يتجرد الحزب من كل الأكاذيب التي سلح نفسه بها، لتبرير ما يقترفه من تشريع حدود لبنان والدفاع عن نظام مجرم، واليوم قتل مدنيين أبرياء عبر تجويعه أطفالا وعائلات حتى الموت.
لقد حاصر حزب الله أهالي مضايا وهو حصار سينتهي يوما، لكن الوصمة التي ستلحق بالحزب جراء هذه الجريمة هي وصمة أبدية.
المصدر : الشرق الأوسط