لم تكن الأحزاب التي أسست هيئة التنسيق لقوى التغيير الديمقراطي، أحزاب ذات توجهات قومية ويسارية وأخرى كردية وحزب سرياني، جذرية في معارضتها للنظام الحاكم في سوريا، فهي، لاعتبارات تتعلق بخلفيتها العقائدية والسياسية، تتقاطع معه في توجهاته الرئيسة (العروبة والاشتراكية ومعاداة الامبريالية) وبنيته السياسية، ومآخذها عليه جزئية ترتبط بقضايا الحوكمة أكثر من ارتباطها ببنيته وطبيعته، وتتبنى نظرة إصلاحية وتتحرك لتقنعه بالانفتاح عليها والتفاهم معها على حكومة وحدة وطنية (عبّر انسحاب حزبي الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي/حزب ناصري والعمل الشيوعي من إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي بعد عقد مؤتمر المجلس الوطني يوم 1/12/2007 بذريعة هيمنة التيار الليبرالي على الإعلان عن هذا النزوع بوضوح).
جاء تأسيس “الهيئة” في لحظة مواتية لهذه الأحزاب حيث كانت ثورة الحرية والكرامة في مرحلتها الأولى ذات توجه إصلاحي، فقد وجدت فيها فرصة للتحرك فسعت الى لعب دور في ضبط إيقاعها واستخدامها منصة لفتح حوار مع النظام على ذات التصورات الإصلاحية التي كانت تحملها دون التفات للطبيعة العاصفة للهبة الشعبية ولتطلعات الشارع الثائر ومطالبه ورأيه.
غير أن تبني النظام لخيار القوة والبطش لكسر إرادة المواطنين وتحطيم عنفوانهم وتلقينهم درسا قاسيا على تجرؤهم على المطالبة بالإصلاحات وسعيه بوحشية لإعادتهم إلى قمقم الخوف والخضوع أفسد على “الهيئة” حلمها الوردي باستثمار الهبة الشعبية لتحقيق هدفها السياسي ولو على حساب تضحيات الشارع الثائر، وزاد رد فعل هذا الشارع على عنف النظام برفع سقف مطالبه بتبني إسقاط النظام في حدة إحباطها محدثا شرخا بينهما أخذ في الاتساع في ضوء تصاعد المواجهة بين النظام والشارع الثائر من جهة واتساع تباين المواقف بين “الهيئة” وهذا الشارع، على خلفية بقائها عند تصوراتها القديمة وتطور مواقف الثاني (ظهور السلاح والمطالبة بحماية دولية وحظر جوي رفضتهما “الهيئة” ورأت فيهما دعوة لتدخل عسكري خارجي للقضاء على القدرات العسكرية السورية وعلى الجيش الذي بناه الشعب).
وجدت “الهيئة” نفسها في موقف حرج فلا النظام قابل بالحل الإصلاحي الذي دعت إليه ولا الشارع الثائر مستعد للتراجع والعودة إلى بيت الطاعة، من جهة، ولا هي قادرة على تحدي النظام، لاعتبارات تتعلق بخلفياتها العقائدية والسياسية وبوجودها في متناول آلة بطش النظام، ولا هي قادرة على التأثير على الشارع الثائر، من جهة ثانية، وبقاؤها عند موقفها غير مقبول من طرفي الصراع وهذا عرّضها لضغوط النظام ولمعاداة الشارع الثائر الذي شكك بولائها للثورة وبوطنيتها.
حاولت “الهيئة” الخروج من المأزق بالتحرك الخارجي والاتصال بالدول الداعمة للنظام علّها تقوم بالضغط عليه ودفعه إلى القبول بالإصلاحات المطلوبة دون اخذ التطورات التي حصلت على الأرض بالاعتبار والتي جعلت الإصلاح خيارا غير مقبول، وزاد في مأزقها بلوغ النظام مرحلة اللاعودة وتبنيه سياسة الفسطاطين وعدم قبوله بوجود خيار ثالث واستياؤه من الاحراج الذي تشكله له “الهيئة” باعلانها الاستعداد للحوار معه على الاصلاحات فاعتقل عبدالعزيز الخير، الوجه الأكثر تعبيرا عن التوجه الإصلاحي والقادر على الإبقاء على “الهيئة” موحدة ومتماسكة لما له من قدرات سياسية وجاذبية شخصية، لإرباكها ودفعها إلى حافة الانهيار أو القبول بخيارات النظام: الإصلاحات بعد القضاء على “الإرهاب”.
كما تسببت سيطرة وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، الحزب المشارك في “الهيئة”، على مناطق واسعة في محافظتي الحسكة وحلب بالتفاهم مع النظام وإعلانه الإدارة الذاتية في ثلاثة كانتونات دون تنسيق مع قيادتها في تعقيد موقفها، فهي من جهة ضد توجهات الحزب المذكور في ضوء تمسكها بدولة سورية مركزية، وهي، من جهة ثانية، تعتبر الحزب قوة وازنة تثّقل حضورها السياسي وتقوي دورها ناهيك عن تشكيله سورا واقيا لها من بطش النظام في ضوء حاجة الأخير لبقاء الحزب في “الهيئة”، وهذا يضطرها على السكوت عن تصرفاته ومواقفه التي تزيد الشرخ بينها وبين القوى المعارضة الأخرى والشارع الثائر.
شكل الانقلاب المصري، وتسلم الفريق عبدالفتاح السيسي رئاسة الجمهورية، متنفسا “للهيئة” التي رأى فيه منسقها العام، الذي يستبطن فكرة الزعيم القائد الملهم والمخلّص، عبدالناصر جديدا، خاصة وان محاولاتها في إقناع روسيا وإيران للضغط على النظام للقبول بالإصلاحات قد باءت بالفشل، دون أن تلاحظ طبيعة النظام المصري الجديد وموقفه الأقرب إلى موقف النظام، فاندفعت في زيارات متتالية إلى القاهرة لجذب الأخيرة إلى موقفها ودخلت في سياسة النظام الجديد لمواجهة الدور التركي في سوريا وانخرطت في لعبة إضعاف الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، الذي يعتبره النظام المصري ورقة تركية، وشاركت في لقاءين نظمتهما الخارجية المصرية لمعارضين في القاهرة صدر عنهما وثيقة للحل السياسي في سوريا، كما شاركت في اجتماعين تشاوريين عقدتهما الخارجية الروسية لمعارضين قريبين منها ومن إيران والنظام لنفس الهدف: عزل الائتلاف وإضعافه وخلق بديل او شريك يضطره إلى تعديل مواقفه كثمن للابقاء عليه.
لم تنجح العملية حيث لعبت السعودية دورا في ضبط حركة النظام المصري في الساحة السورية ونجحت، مع تركيا وقطر، في حماية “الائتلاف” والإبقاء عليه الجسم الرئيس للمعارضة السورية وهذا اضطر “الهيئة” إلى التحاور معه والعمل على الاتفاق على وثيقة مشتركة للحل السياسي(لقاء بروكسل) ما عرّضها إلى ضغوط من النظام وإيران وروسيا عبّرت عن نفسها بتصريحات من أعضاء في مكتبها التنفيذي تشكك في شرعية الاتفاق وبانسحاب أعضاء من مكتبها التنفيذي وتشكيلهم أجساما سياسية أكثر قبولا بخيارات الحل الذي يتبناه النظام وحلفاؤه، ما زاد في ضعفها وارتباكها السياسي والتنظيمي.
مع اجتماعات المجموعة الدولية لدعم سوريا في فيينا وصدور بيانها حول الحل السياسي في سوريا واجهت “الهيئة” تحديا مصيريا، فالاجتماع الموّسع كلّف السعودية بجمع المعارضة وتوحيدها استعدادا لمرحلة المفاوضات مع النظام وهي ليست قريبة منها من جهة وليس أمامها خيار آخر سوى المشاركة لان عدم المشاركة سيُخرجها من المشهد السياسي السوري ومشاركتها تنطوي على مجازفة تعرّضها لضغوط من النظام وحلفائه لدفعها للوقوف في وجه توجهات مؤتمر الرياض من داخله، وتعميق انقساماتها الداخلية، اختارت المشاركة وسعت لتسويق رؤيتها وتمرير مواقفها ولعب دور مؤثر ومقرر لكنها لم تنجح في ذلك واضطرت الى التوقيع على البيان الختامي فانهالت عليها الضغوط الداخلية(تصريحات بعض أعضائها الرافضة للتوقيع على البيان قبل مناقشته في المكتب التنفيذي وإقراره وانسحاب بعضهم) ومنع النظام لمندوبيها من المغادرة إلى الرياض للمشاركة في اجتماعات الهيئة العليا للمفاوضات قبل أن تأتي الضربة القاصمة: تجميد حزبي الاتحاد الديمقراطي الكردي والسرياني لعضويتهما فيها في خطوة مدروسة ومنسقة مع ايران وروسيا هدفها فرطها ونسف مخرجات مؤتمر الرياض الذي لم ينل شرف القبول من النظام وحلفائه الروس والايرانيين.
وهذا افقدها الجزء الاكبر من عوامل القوة التي بقيت لها بعد ان خسرت قواعدها الحزبية (كان حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي الخاسر الاكبر في مسيرة “الهيئة” حيث انفصلت عنه الكوادر الشابة وانخرطت في الثورة على الضد من قرار قيادته) ولم يبق فيها الا عدد محدود من الاحزاب الصغيرة والمهلهلة والتي لا قواعد شعبية لديها، ووضعها على مفترق طرق مصيري.
المصدر : المدن