كثيراً ما كنا نهاجم اتفاقية سايكس – بيكو التي قسمت الدول العربية، وجزأتها بالطريقة التي تريد، وكثيراً ما كنا نرى في هذا التقسيم تقسيماً لوطننا العربي الواحد، خصوصاً وأن الاتفاقية أوجدت دولاً لم تكن تعرف قبلها معنى التقسيم، كانت وعاشت على أنها جزء من إمبراطورية إسلامية حكمت العالم العربي وعوالم أخرى، تمتد وتتقلص تبعاً لقوة هذه الإمبراطورية.
واليوم، وبعد 100 عام على هذه الاتفاقية، صار الكل يبشر بانتهاء صلاحياتها، منظرون غربيون، وساسة دول، ومسؤولو مخابرات دولية، من دون أن يطرح أحدهم لماذا انتهت صلاحيات “سايكس بيكو” الآن بالتحديد؟ وما البديل عنها؟
نعيش، اليوم، صراع هوية، تفجر عقب الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، كان بعضهم يعتقد أنه سيبقى محصوراً في العراق، نظراً لتباين مكوناته، كما اعتقد، غير أن الأمر انتقل، أو نُقل، إن شئنا الدقة، إلى دول أخرى، لم تكن متباينة مكوناتياً كما العراق. فهذه سورية، تعيش اليوم هي الأخرى صراع هويات، بعد أن تم ضرب المكون الغالب، السنة، بقوة، وتهجير نحو ثمانية ملايين من أبنائه، وقتل ما يقارب من 300 ألف، وبتنا نسمع عن عمليات تهجير وإحلال لمناطق مختلفة في سورية، وينظر البعض باستغراب حول ما نسب لوزير الخارجية الأميركي، جون كيري، قزله إن السنة في سورية يصلون إلى 65%، في تصريحٍ، يبدو أنه لم يتردد بطريقة عبثية، أو من غير قصد.
الأمر نفسه الذي فعلوه بالعراق يوم أن ضخموا أعداد الشيعة، حتى وصلت إلى 85%، وصار مصطلح الأكثرية الشيعية والأقلية السنية غير قابل للنقاش، بل بات بديهياً، ومن الصعب أن تقنع أي شخص أن الأمر ليس كذلك، وأن الحديث عن أغلبية وأقلية في العراق لا يستقيم مع طبيعة واقع البلد.
كان الحديث عن “سايكس بيكو” جديداً قد رافق الغزو الأميركي للعراق، وكانت وزيرة الخارجية الأميركية، السابقة كوندوليزا رايس، الأكثر صراحة في الحديث عن شرق أوسط جديد بدأ في العراق.
اعتقد بعضهم أن مشرط التقسيم سيكون جغرافياً، وهو الأمر الذي مازال بعضهم يردده، وقد يكون ذلك. ولكن، وبعد أن تفجر صراع الهويات الطائفية بهذا الشكل السافر، قد لا يكون الأمر كذلك.
يتم في العراق، اليوم، إحلال شعب محل شعب آخر. قبل أسابيع، دخل العراق نصف مليون إيراني بلا وثائق سفر، كسروا بوابة الحدود ودخلوا بحجة زيارة العتبات الشيعية في أثناء شهر محرم، لا أحد يعرف إلى الآن أين ذهبوا؟ هل عادوا؟ وكيف عادوا؟ أم إنه تم تذويبهم بين العراقيين؟
الأحاديث عن تجنيس الإيرانيين في العراق أكثر من أن تعد أو تحصى. بدأت عقب الغزو الأميركي ومازالت، تقابلها عمليات القتل والتهجير الطائفي التي استهدفت العراق، فعلى الرغم من غياب إحصائيات موثقة، إلا أن تقارير ذكرت أن أكثر من سبعة ملايين عراقي سني هاجروا عقب الغزو الأميركي، أضيف إليهم أكثر من أربعة ملايين نزحوا داخل بلادهم، وتحديداً إلى مخيمات أو مناطق إقليم كردستان، ومازالت عودتهم لا تلوح في الأفق، ولا يبدو أنها ستلوح، مع إصرار الميلشيات على قتل كل من يفكر بالعودة واعتقاله، وأيضاً عمليات التفجير المستمرة لمنازلهم في بيجي وتكريت، وطبعاً الرمادي، مازال الحديث عنها، وعن عودة عوائلها، بعيداً، وربما بعيد جداً.
تم في ديالى تهجير غالبية السكان، وكانت هذه المحافظة، حتى العام 2003 ذات غالبية سنية كبيرة، وهو ما دلت عليه حتى نتائج انتخابات مجالسها المحلية التي غالباً كان السنة يقاطعونها، حيث أفرزت، وعلى مدى ثلاث دورات، محافظاً سنياً، قبل الانقلاب عليه، وإسناد المهمة للمحافظ الحالي التابع لمنظمة بدر.
للتغيير الديمغرافي في العراق وسورية أسبابه، فهم لا يريدون للعراق أن يحكمه السنة، وذلك قرار اتخذ في دوائر القرار الأميركية على ما يبدو عقب قصف صدام حسين تل أبيب عام 1991، وما أعقب ذلك من عمليات حصار وتجويع للعراقيين، حتى انتهى الأمر إلى احتلال البلاد وتسليمها للشيعة، وهو أمر اتفق عليه ساسةٌ سنةٌ عديدون، ممن لعبوا أدواراً مختلفة في العملية السياسية عقب 2003، حيث قالوا، في حوارات خاصة، إنهم اكتشفوا أن أميركا لا تريد السنة، ولا ترغب بهم في حكم البلاد مطلقاً.
الشيء نفسه في سورية عقب الثورة. تدرك أميركا جيداً أن أي بديل لبشار الأسد سيكون سنياً، وأي سني سيكون في هذا المنصب، ومن يأتي بعده، سيشكل خطراً على إسرائيل. ومن هنا، لا بد من تغيير ديمغرافية سورية. تخوض أميركا اليوم حرباً لإعادة تحديد هويات العراق وسورية، وهي حرب كلفت شعبي البلدين كثيراً، وهذا أمر يجب أن يدركه الجميع، خصوصاً البلدان التي ستكون متضرّرة من وجود جيران يتبعون الولي الفقيه. والإشارة، هنا، إلى الكويت والسعودية والأردن وتركيا، وربما مصر أيضاً.
المصدر : العربي الجديد