في سخريته الناعمة من الآيديولوجيات المتصارعة، أعلن “الرفيق” محمد الماغوط قبل الرحيل أنه دخل الحزب “القومي السوري” مناضلا جنبًا إلى جنب “الصوبيا” (المدفأة) التي وجدها في مكتب الحزب، في السلمية مدينته.
السوريون يذهبون إلى مفاوضات آجلة أو مؤجلة، بحقائب فارغة من الأهم. المعارضات السياسية والمسلحة والنظام مشغولة في نزاع على تفاصيل إجرائية صغيرة: من يجلس مع من؟ من يفاوض من؟ ومن يوجه؟ ومن يراقب؟ ومن يدير المفاوضات عن بُعد، بالـ”ريموت كونترول”؟
أصبحت المفاوضات هي الأساس. وليس البحث عن الهوية والمصير في الحاضر والمستقبل! المعارضات مهتمة بالمحاصصة التفاوضية. واختارت “مسلحًا” رئيسيًا تفاوضيًا، عندما علمت أن النظام اختار “مخابراتيًا” استفزازيًا رئيسًا لوفده. وأذكّر هنا بأن وفد النظام في مؤتمر جنيف السابق لم يكن سياسيًا. ولا حتى حزبيًا. كان مؤلفًا من المديرين المخابراتيين لمكاتب الوزراء.
إذا كانت دول الخليج تساند المعارضة التفاوضية، فهي على كل حال دول عربية، من واجبها أن تكون معنية بما يجري في أي دولة شقيقة. أما النظام الطائفي فقد خلع إيران، كدولة الوصاية الإقليمية عليه، لعجزها عن احتلال سوريا. واستسلم لوصاية روسيا الدولة غير المعنية بالديمقراطية. وليس في تقاليدها مراعاة حقوق الإنسان. واحترام حق الشعوب المستقلة، في إدارة نفسها بنفسها. ورئيس الدولة فيها يتبادل مع رئيس حكومتها أعلى منصبين فيها باستمرار، منذ 15 سنة.
الأحرى ببان كي مون عدم السماح للمفاوضين الافتراضيين بالجلوس غدًا، في صالة المفاوضات. فتعب الوقوف يعجِّل بالاتفاق. ويخفف من التوتر والنزاع. ومعظم الاتفاقات والمعاهدات، في التاريخ، تمت بين الواقفين المتهامسين في الردهات (الكواليس)، وليس بين الجالسين الذين اكتفوا بشرف البصم والتوقيع.
ستيفان دي ميستورا السمسار الدولي الداعي للوفدين التفاوضيين، والواقف على باب الصالة. والمشغول بحشر الرفيق المتسلل هيثم منَّاعوف في وفد المفاوضة، هل سيسأل المدعوِّين عن الهوية؟ من أنتم أيها المدعوون؟ نعم، أنتم سوريون؟ لكن هل كانت سوريا في تاريخها الحديث، بلا هوية؟ بلا عروبة؟
نعم، وفد المعارضة آتٍ من حصار الجوع في مضايا. ووفد النظام آتٍ من مقبرة جماعية دفن فيها 300 ألف إنسان بلا هوية. على ماذا تتفاوضون وأنتم بلا هوية؟ على سوريا كردية. فارسية. تركية. شيشانية. مغولية؟! في تغييب المعارضة للهوية، رفع الأكراد الانفصاليون لافتة عريضة: سوريا لا عربية، ولا كردية. لكن لماذا يدمر الأكراد المدعومون أميركيًا وروسيًا ألوف البيوت العربية. ويطردون العرب من تل أبيض. وعين العرب. والحسكة. والقامشلي. وريف الموصل؟
كنت أتمنى أن يكون البحث عن الهوية أول ما يشغل المعارضات التي التقت في الرياض. هل تخشى المعارضات السورية أن يعترض الخليج على البحث عن الهوية، والرياض في عهد مليكها سلمان بن عبد العزيز عاصمة العروبة والإسلام؟ أعلنت المعارضات المسلحة عن هويتها “الدينية”. وأغلب ظني أن المعارضات السياسية تشعر بالحرج أمام أوروبا وأميركا، إذا ما جهرت أمامها بهوية سوريا العربية.
ناضلت سوريا منذ انفصالها عن دولة الخلافة العثمانية (1918) تحت راية العروبة. قاد زعماء النضال المفاوضات مع فرنسا تحت راية العروبة. ركزت أنظمة الاستقلال المتعاقبة على التمكين لثقافة عربية. ونشر اللغة العربية كلغة الهوية.
العروبة هوية، وليست آيديولوجيا بعثية أو ناصرية مكتسبة. السوريون عرب. ليسوا بحاجة إلى تعريب حزبي. العروبة الثقافية المتسامحة تسمو بسوريا فوق الآيديولوجيات الأضيق، من عنصرية. وطائفية. ومذهبية. لكن لا عروبة بلا ديمقراطية. الوثيقة الصادرة عن المعارضة لم تركز، بشكل أساسي، على الهوية. طالبت بدولة مدنية. وديمقراطية تعددية. بلا هوية!
هل تغلبني العاطفة عندما أقول لا عروبة بلا ديمقراطية. ولا ديمقراطية بلا عروبة؟ لا أحب مفردة “الأقليات”. هذه “الأقليات” أحرى بأن تحمي. وتحافظ على انتماءاتها الضيقة، من عنصرية. ودينية. ومذهبية، بالانتماء إلى الهوية الثقافية الغالبة. الهوية الثقافية العربية، بروافدها التعددية الإنسانية. بلا تعصب قومي. عنصري. مذهبي. ديني.
أحرى بالعروبة الثقافية المتسامحة أن تكون المدفأة البديلة لمدفأة الراحل الماغوط الحزبية. عروبة لا يمسخها. ويشوهها نظام طائفي. ولا تتجاهلها معارضة باكتسابها هويات شتى مسايرة لقوى الحاضر. وانتهت بتشويه الثورة الراهنة. وإذا كان لسوريا مستقبل. ووحدة تراب. وكيان، فكل تزييف للديمقراطية سيكون تزييفًا للعروبة. واعتداء على الثقافة السائدة.
الدستور هو الذي يضمن للأقليات العنصرية. والدينية. والمذهبية. الحفاظ على ثقافاتها. ولغاتها. وحريتها الشخصية في الممارسة، شرط أن لا تكون استفزازية ومتعصبة. وأقصد بالذات الأكراد، إلى أن يحسم وضعهم الإقليمي نهائيًا. فلا دولة تقسيمية كردية في سوريا، فيما يخضع الأكراد لحكم مركزي أو ذاتي، في تركيا. والعراق. وإيران. وروسيا.
في الحروب الأهلية نفتقد البراءة. والنزاهة. نفتقد الهوية. ونضيّع معها، نظاميين ومعارضين، صوت الأغلبية الصامتة. الأغلبية النازحة. والمهاجرة! صوت مئات ألوف السوريين الذين يحاصرهم النظام وقناصة حزب الله في مدن وقرى الجوع والمجاعة. صوت الملايين الصامتين في المدن التي يسيطر عليها النظام بالرعب والتنظيمات المسلحة بالتزمت. وتتعامل معها الدول المضيفة من شقيقة أو أوروبية، كقضية أشلاء مهاجرة ولاجئة، تثير الشفقة. ولا تثير الهمة من أجل خوض معركة الحرية.
هذه الأغلبية الصامتة من يمثلها في المفاوضات على المستقبل والمصير؟ لماذا لا يكون لها من يمثلها ضمن وفد المعارضة؟ من يبني سوريا المستقبل، إذا فقدت ملايين الشباب السوريين في مخيمات النازحين. والمشردين في دول أوروبية. والغارقين في مياه البحر؟ هؤلاء هم الشرائح الواعية والعاملة في طبقة وسطى سورية. هؤلاء ستكون لهم انتفاضتهم السلمية، على نظام المحاصصة بين ثلاثة محاور: تنظيمات سياسية بلا هوية. وتنظيمات مسلحة متزمتة. إخوانية. أو قاعدية. أو داعشية. ونظام طائفي شرس مجرد من ثقافة سياسية تغار على العروبة التي يدعيها. ثم يبيعها تارة لإيران. وتارة لروسيا. وربما لغيرهما غدًا.
الحل الأنسب في سوريا هو الذي يبدأ بلقاء اجتماعي عريض، لا للمفاوضة. وإنما للمصالحة. للندم. لمراجعة الذات. لتذكر الهوية المضيَّعة. للسمو بالنفس إلى مستوى نبل الثقافة التعددية. وللتعريف المتواصل بمفردات الديمقراطية: استفتاء الشعب. نزاهة الاقتراع. التبادل السلمي للسلطة. الفصل بين السلطات الثلاث. ضمان حرية التعبير في المؤسسات التشريعية. والنقابية. والحزبية.
لا أتكلم عن مثاليات هوائية. أتحدث عن واقع سوري مؤلم يفرض، بصراحة، وضع سوريا تحت وصاية دولية محمية بقوات محايدة عربية ودولية، قادرة على “فرض” السلام بالقوة المسلحة على الجميع نظامًا وتنظيمات. وإعادة بناء جيش وطني للدفاع. وإقامة أجهزة أمنية للمتابعة ولتحليل الأحداث والتطورات الداخلية والخارجية. وليس لتعذيب الناس في الأقبية.
القوات والوصاية الدولية المؤقتة وحدها القادرة على منع التدفق الحالي الخطير للقوات الروسية والأمريكية، لإقامة قواعد لها في مناطق الأقليات العلوية. والكردية، بحجة محاربة الإرهاب، فيما هي تجسد اعتداء على الكيان السوري. واحتمال نشوب مواجهة مع تركيا، إذا تمددت روسيا على طول الحدود. مع خطر صدام أمريكي/ روسي، على الأرض السورية يهدد السلام العالمي.
المصدر : الشرق الأوسط