مآل الوضع السوري الكارثي هو محصلة موضوعية لجملة من الفرص الضائعة التي جرى إهدارها على مدى خمس سنوات من عمر الثورة السورية. بعض هذه الفرص فرّط به السوريون، والبعض الآخر أضاعته أطراف إقليمية ودولية، وفتح تقاطع الفرص المهدورة في الاتجاهين الأبواب أمام انهياراتٍ أطاحت كل آمال الشعب السوري وأحلامه في الحرية والكرامة، بل إنها رمته إلى مصير مأساوي، يعجز عنه الوصف. ومن دون شك، كانت الفرصة الكبرى هي التي ركلها النظام، حين رفض الإصلاح ولجأ إلى القتل.
وبعيداً عن مرض جلد الذات الذي يتفشى، حينما تقع الخسارات الكبرى، فإن الذين تصدروا المشهد يتحملون المسؤولية المباشرة عما أصاب السوريين ولحق بهم. وعلى الرغم من أن الشعب لم يبخل بالتضحيات، فإن من قادوه خلال خمس سنوات أضاعوا فرصة بناء جسم موحد قادر على إدارة تحديات المرحلة ومواجهتها، سياسياً وعسكرياً وثقافياً واجتماعياً، ولا يمكن لأحد من قيادات المرحلة أن يتنصل من مسؤولية ذلك.
وبقدر ما يتحمل هؤلاء المسؤولية عن المأزق الذي وصلت إليه الثورة ضد النظام، فإن التحجج بالإمكانيات ادعاء غير صحيح، لأنها كانت متوافرة، وما حصل عليه السوريون من دعم مادي وتسهيلات كان كفيلاً بإسقاط النظام، قبل أن تتردّى الأوضاع، وتبدأ بالتعفن، لكي تشكل بيئة حاضنة لظاهرة الإرهاب وانتشار التطرف.صحيح أن الفصائل السورية المقاتلة لم تحصل على سلاح نوعي يوازي ما لدى النظام وحلفائه، لكنها لم تكن تقاتل بهراوات، بل كان لديها من الأسلحة ما أكسبها معارك كبيرة.
تعد قضية تشتيت الجهد وتفريخ المنظمات المقاتلة أخطر الأمراض التي لحقت بالثورة، وقد أصابها في وقت مبكر، قبل ظهور “داعش” وجبهة النصرة على مسرح الأحداث، وذلك يعود إلى منتصف عام 2012.
حينذاك، جرى إحصاء مئات من المنظمات المقاتلة التي اتخذت صبغة إسلامية، بالتوازي مع محاولات بعض الأطراف أسلمة الثورة، الأمر الذي أدخلها في متاهات وأنفاقٍ، وأعطى للنظام ذريعة بأن يشن ضدها حرباً سياسية إعلامية، وينعتها بالإرهاب الأصولي، كما أنه أدى بالقوى الغربية أن تقيم مسافة معها، وهذا الأمر لم يفهمه كثيرون من الثوار السوريين حتى اليوم، فهناك من يبدي استغرابه من صمت واشنطن عن حرب موسكو ضد فصائل معارضة معتدلة بعيدة عن التطرف، ولم يستوعبوا أن الغرب يفضل النظام على المعارضة ذات الصبغة الإسلامية، لاسيما وأن جبهة النصرة (فرع القاعدة) باتت تشكل قوة رئيسية في مناطق المعارضة، خصوصاً في إدلب، وصارت تطبق قوانين متشددة ضد السكان.
صحيح أن الموقف تدهور خلال السنوات الأخيرة، بفعل ظهور “النصرة” و”داعش”، ولكن الإطار الإقليمي والدولي الذي حكم المعادلة السورية كان بلا ضوابط، ولم يسعفها لكي تستعيد بعض عافيتها، ويتحمل المسؤولية الكبرى عن تدمير مسار الحل الدولي الولايات المتحدة، فهي التي أغرقت الشعب السوري بالوعود والآمال الكاذبة من جهة، ومن جهة ثانية منعت عن الثورة كل سلاح يخلّ بموازين القوى مع النظام، وجاملت روسيا في تعطيل عملية جنيف التي جرى وضع أساسها في يونيو/ حزيران 2012، وكانت تشكل أساساً سليماً للحل.
ومن غير المجدي اليوم استعادة شريط التراجعات الأميركية في خمس سنوات، ويكفي فقط التوقف عند الفترة القصيرة من عمر التدخل العسكري الروسي المباشر، حيث ظهر، في صورة واضحةٍ أن واشنطن هي من توفر المظلة السياسية لروسيا، كي تقضي على الثورة السورية، وتعيد تأهيل بشار الأسد، وذلك في ظل إضاعة تركيا والسعودية فرصة معركة حلب التي وفرت لهما مناسبة للتدخل، من أجل فرملة العدوان الروسي الإيراني. ومن دون أدنى شك، لم تكن أنقرة والرياض لتقبلا بموقف الحد الأدنى في دعم السوريين، لو لم تتعرضا لضغوط أميركية كبيرة.
المصدر : العربي الجديد