فاجئ قرار الرئيس الروسي بوتين بسحب قواته؛ المتابعين للشأن السوري، ولا سيما أنّ قرار الانسحاب جاء متزامناً مع مؤتمر “جنيف3”. ولا ترجع غرابة القرار لهذا وحسب، بل ترجع لتعارضه مع هدف التدخل الروسي المعلن سابقاً، والمتمثل بالحرب على الإرهاب، فالواقع الميداني يشير لخلاف ما قاله بوتين من أنّ التدخل الروسي حقق أهدافه على نطاق واسع.
إذ لم يسهم التدخل الروسي إلا في استعادة مناطق محدودة لا تمثل قيمة استراتيجية من تنظيم الدولة في ريف حلب الشرقي، وأخرى في الريف الشمالي لحلب من المعارضة المعتدلة، أي لم يُحدث تدخلهم تغيراً استراتيجياً.
ويبدو أنّ وراء الأكمة ما وراءها. فقرار بوتين لا علاقة له نهائياً بالحرب على الإرهاب، وبوتين آخر من يهتم بحرب الإرهاب. فالتدخل الروسي حمل أهدافاً سياسية، خلافاً للتدخل الإيراني العقائدي. فروسيا تبحث عن مصالح، وتسعى للحصول على جزء من الكعكة في سوريا، وهذا ما حصل. فقد استثمر الروس الورقة السورية سياسياً بالعودة للواجهة الدولية كقطب عالمي، واقتصادياً بقبض ثمن الانسحاب مشاريع وصفقات ضخمة مع الخليج، ناهيك عن الضمانات الإقليمية والدولية بالحفاظ على القاعدة الروسية في طرطوس.
ويُضاف لما سبق؛ أسباب عميقة دفعت الروس للانسحاب، فقد عاين الروس مقدار تآكل وانهيار الجيش السوري الذي لم يعد له إلا اسمه. فالتقدم الطفيف الذي حققه النظام بعد شهور من التدخل الروسي تمّ بفضل دعم الطيران الروسي من الجو، والمليشيات الطائفية على الأرض، فأدرك الروس عبثية إحياء الميت سريرياً، فالتغيير الحقيقي يحتاج قوى بريّة على الأرض، وهذا ما لا يريد الروس أن يورطوا أنفسهم به، فدرس أفغانستان ليس ببعيد.
ويدخل هنا رسالة إسقاط طائرة ميغ قبل أيام فوق كفرنبودة في ريف حماة بواسطة صاروخ حراري، فالإنذار كان خطيراً جداً للروس بأنّه لن يسمح لكم اللعب بحرية أكثر من ذلك. وبما أنّ الدب الروسي رغم قوته غير قادر على الدخول بحرب استنزاف طويلة، فقد آثر الانسحاب والخروج سالماً قبل أن تغوص قدماه في المستنقع السوري.
ولا يستبعد هنا الدور الفعال للدبلوماسيّة السعودية في عهد الملك سلمان، دبلوماسية اكتسبت فعاليتها من خطوات مؤثرة على الأرض، أبرزها تشكيل التحالف الإسلامي، والتهديد جدياً بتدخل بري في سورية، وربما يحصل هذا قريباً ولا سيما أنَّ مؤشرات ذلك على الأرض بدأت تظهر، ولا تريد روسيا التصادم مع العالم الإسلامي. وتأتي زيارة الملك سلمان المزمعة لروسيا في هذا الإطار، وتثبت هذه الزيارة المسبوقة بقرار الانسحاب الروسي أنّ تصريحات الجبير بضرورة رحيل الأسد سياسياً أو عسكرياً لم تكن بهلوانية.
ويرجح بناء على ما سبق، وعلى توقيت القرار، أنّ الانسحاب الروسي يأتي ضمن اتفاقات إقليمية ودوليّة تهدف للخروج بحل سياسي للنزاع السوري يتم فيه الحفاظ على سوريا دون الأسد. وقد أشار الصحفي يفغيني سيدروف، المقرب من دوائر القرار الروسي، أن هناك اتفاقاً روسياً أمريكياً حول إنهاء الحرب في سوريا، وبدء تسوية شاملة.
وينسجم ذلك مع ما كنا نقوله بأنّ التدخل الروسي تمّ برضا أمريكا ومباركتها، وليس أدل على ذلك من التنسيق العالي، ودعم الطرفين معاً لمليشيا واحدة (قوات سوريا الديمقراطية).
وتعكف القوى الإقليمية والدولية على إيجاد البديل المناسب لملء فراغ رحيل الأسد، وربما يكون لقاء الفصائل العسكرية اليوم الثلاثاء في أنقرة إحدى هذه الخطوات. إذ يهدف الاجتماع لخلق كيان عسكري موحد. فالمعضلة الرئيسة التي شكلت داعماً رئيساً لبقاء الأسد حتى الآن متمثلة بغياب الجسم العسكري الموحد للمعارضة المسلحة.
ويثبت القرار الروسي بالمحصلة أنّه يستحيل على أية قوة الحفاظ على الأسد، ويثبت أنّ ساعات بقاء الأسد شارفت على النهاية، فالأسد لا يمكنه الاستمرار من دون روسيا.
المصدر : عربي 21