أنت المسلح الغريب الذي وفدتَ إلى سورية. بمبادرة شخصية أو حزبية. بتسهيل أو تشجيع أو دعوة. وتذرّعت بالجهاد ضد الكفار، أو إنقاذ الممانعة والحرب على التكفيريين. أقول الغريب وأقصد ما أقول. هذه ليست بلادك. وعظام أجدادك لا تنام فيها. وهي أصلاً ليست مشاعاً للعابرين، ولا للمقاتلين الجوّالين.
سورية ليست خطأً جغرافياً، وجذورها ضاربة في التاريخ، وملكيتها ليست غامضة أو ملتبسة. إنها للسوريين. مهما اقتتلوا ومهما تذابحوا. وقدرها أن ترجع ذات يوم إلى ملاّكها الأصليين. ولا بد للغريب أن يغادرها، مهما طالت إقامته، ومهما تعاظمت ارتكاباته.
هذه ليست بلادك. مهما أوردتَ من الذرائع. لا يحق لك ان تمسك بعنقها ومصيرها. وأن ترسم ملامح مستقبلها. لا يخدعنك أنها مستباحة اليوم. وتبدو يتيمة، مكسورة ومستضعفة. لا تتذرّع ببراميل النظام لتبرير إقامتك. ولا تتوهّم القدرة على البقاء بسبب أهوال التكفيريين. ذات يوم ستجمع أوهامك وتغادر.
انتَ المسلح الغريب. سواء جئت من الشيشان، أو داغستان، أو أفغانستان. سواء جئت من المغرب العربي أم من الخليج، وسواء جئت من إيران أو العراق أو لبنان. لا يتّسع هذا المكان لسرد كل الهويات واللغات واللهجات التي تطفو اليوم فوق بحيرة الدم السورية.
ستأتي ساعة يجلس السوريون فيها مُنهَكين حول طاولة. لا تستطيع المناطق والطوائف احتمال هذا النزف الى الأبد. وقرار الطلاق النهائي أكبر من قدرة المحاربين وأخطر. سيرمّمون الخيمة ولو في صورة دولة مركزية ضعيفة وسيخفون الأقاليم تحت تسمية اللامركزية. وفور اتفاقهم سيكون على الميليشيات الوافدة أن تغادر. وسيُكتب الكثير عن موسم الفتك الكبير.
ولا تستغربنّ ان يسألك سوري ذات يوم عما فعلتَ في سورية. وأن يقول لك مَنْ أعطاك الحق في قتل السوريين؟ مَنْ أجاز لك قتل سوري لأنه معارض؟ ومن أباح لكَ قتل سوري لأنه موالٍ؟ وكم سورياً قتلت؟
النكبة السورية.
إياك عزيزي القارئ ان تتهمني بالمبالغة. مسلح غريب يصطاد في حقل الرماية السوري. وسوري هائم يسقط من قارب الموت لتلتهمه أسماك البحر، بعدما حاول النجاة من أسماك البر
النكبة السورية.
أنجَبَت المذبحة 300 ألف قتيل على الأقل، وملايين اللاجئين والنازحين. والتقديرات الروسية تقول إن كلفة الإعمار وإصلاح الأضرار تفوق 300 بليون دولار.
تذكرتُ البارحة ما شاهدته في فيلم في مقر للبيشمركة على خط المواجهة مع «داعش» في شمال العراق. كانت حصيلة المعركة كومة من الجثث. راح الضابط الكردي يشرح. هذه جثة مقاتل آسيوي، والثانية لأفريقي، وهذا يبدو من منطقة المغرب العربي، وهذا من الخليج. وهذه الجثة صينية الملامح. حجم الاستباحة التي تعرّض لها العراق أصابني بالذعر، لكن الاستباحة في سورية أكبر وأفظع.
أكتبُ عن المقاتلين الأجانب في سورية لأنني لاحظتُ شبه غياب لهذا الموضوع في ما يُكتب عن تلك البلاد المنكوبة. عشرات آلاف المقاتلين. ثمة مَنْ يقدّرهم بـ60 ألفاً. وعشرات التنظيمات. يقاتلون سوريين ولا يرفّ لهم جفن. ويتقاتلون أحياناً على الملعب السوري ولا يرفّ لهم جفن. مخيفٌ أن نستخدم صفة الملعب المستباح لبلاد كانت قبل حفنة سنوات لاعباً لا يمكن إنكار دوره مهما اختلفتَ معه.
لن يرجع المسلح الغريب الذي يقاتل النظام، بالانتصار الذي كان يتوهّم. ولن يرجع المسلح الغريب الذي يقاتل المعارضات بالنصر الذي كان يشتهي. وسواء كنا في الطريق الى سورية الروسية أم غيرها فإن الحل سيشبه توزيع السم على المتحاربين السوريين، وإن اختلفت المقادير.
لا مكان للمسلّحين الوافدين بعد الحل. وثيقة دي ميستورا واضحة: «لن يُسمح بأي تدخُّل من جانب مقاتلين أجانب على الأراضي السورية». لن يحمي هؤلاء أنهم اصطحبوا معهم أحياناً عائلاتهم، أو تزوجوا سوريات، أو اشتروا عقارات، أو حاولوا الذوبان في المجتمع المحلي. لكن الأكيد هو ان إخراج المسلحين الوافدين لن يكون سهلاً، وقد يستلزم حروباً ومطاردات طويلة.
لا أقصد القول إن المسلحين الوافدين هم مَنْ صنعوا النكبة. لا تُنكب الأوطان إلا على يد أبنائها أولاً. واضح أن بعض الميليشيات أدمت النظام وبرّرت استعانته بميليشيات وكأنها سقطت في لعبته. وميليشيات أخرى أدمت المعارضة وغيّرت طبيعة النزاع وعمّقت هويته الإقليمية والمذهبية.
لا بد لهذه المذبحة من خاتمة، ولا بد لرحلة الأهوال من نهاية. غداً ستغادر أيها المسلّح الغريب وستطاردك الأسئلة. ماذا فعلتَ في سورية؟ وماذا فعلتَ بسورية؟ وكم سورياً قتلت؟
المصدر : الحياة