لا يختلف المراقبون والسياسيون على أن المشكلة الكردية هي أكبر مشاكل تركيا منذ تأسيسها عام 1924 وحتى اليوم؛ فقد رأى مؤسسها مصطفى كمال أن التنوع العرقي والإثني الذي تميزت به الدولة العثمانية كان أحد أسباب سقوطها، وبالتالي فيجب على الجمهورية التركية الوليدة مواجهة ذلك لتجنب المصير نفسه. وعليه، فقد أنكرت تركيا منذ نشأتها تنوعها العرقي واعتبرت كل مواطن يعيش داخل حدودها “تركيا” بغض النظر عن جذوره ولغته الأم.
لاحقا، سار خلفاء الرجل على نهجه وبأساليب أكثر إجحافا أدت إلى التنكر لحقوق الأقليات العرقية في تركيا من عرب وشركس وعِرق “لاز” والبوشناق، والأكراد الذين لا يمكن اعتبارهم “أقلية” وفق المحدد العددي. هذه السياسة التي اعتبرها المؤرخون “عقدة النشأة” بالنسبة لتركيا ظلت تلازمها حتى اليوم، خصوصا فيما يتعلق بالأكراد.
ولأن الأمر لم يقف عند حد إنكار الحقوق الثقافية والاجتماعية لأكراد تركيا، ولا حتى حقوقهم السياسية، بل وصل إلى إهمال وتهميش شبه متعمدين لمناطق جنوب وجنوب شرقي تركيا، التي يمثلون أغلبية سكانها، فقد تزايدت مشاعر الغضب بين الأكراد الذي رأوا أنهم مواطنون من الدرجة الثانية في البلاد.
ومع المد اليساري في العالم في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، احتكرت الحركة السياسية اليسارية الكردية الحديث باسم أكراد تركيا، حيث أسس حزب العمال الكردستاني عام 1978، ثم بدأ حرب عصابات ضد الدولة التركية عام 1984 كلفت تركيا حتى الآن حياة أكثر من 30 ألف شخص، وأكثر من 500 مليار دولار ككلفة مادية، فضلا عن عدم الاستقرار السياسي والشرخ الاجتماعي.
بعد محاولتين لم يكتب لهما الاستمرار مع تورغوت أوزال ونجم الدين أربكان، عزم حزب العدالة والتنمية على حل المشكلة الكردية داخليا، باعتراف رئيسه اردوغان في 2005 بوجود “مشكلة كردية” في تركيا، وبدأ سلسلة من الإصلاحات الدستورية والديمقراطية جنبا إلى جنب مع عشرات المشاريع الاقتصادية والتنموية في مناطق الأغلبية الكردية.
وبعد سنوات من المفاوضات السرية مع زعيم حزب العمال المسجون في تركيا عبدالله أوجلان، بدأت الحكومة ما أسمتها “عملية التسوية” بعد دعوة واضحة من الأخير لأعضاء حزبه بترك السلاح والانخراط في العملية السياسية عام 2013. لكن الهدنة التي استمرت لعامين لم تصمد طويلا على وقع التطورات المتسارعة في الجارة سوريا. هناك، رأت الحركة الكردية أن ضعف قبضة الدولة المركزية فرصة تاريخية قد تسمح للأكراد لأول مرة في تاريخهم بإنشاء دولة خاصة بهم في الشمال السوري، الأمر الذي انعكس على قرار الحركة السياسية الكردية في تركيا بشقيها العسكري المتمثل بحزب العمال والسياسي المتمثل بحزب الشعوب الديمقراطي.
فبعد انتخابات حزيران/يونيو 2015 تراجع حزب العمال عن الهدنة واستأنف عملياته العسكرية بعد تصريحات من بعض قياداته دعت الأكراد إلى الانخراط فيما أسمته “حرب الشعوب الثورية”. ومع رد الحكومة التركية على العمليات بدأت حالة من التصعيد المتبادل، لم تهدأ داخل البلاد منذ تموز/يوليو الفائت وحتى الآن، على شكل حرب عصابات ومواجهات في الأزقة، ومشاهد يومية من المواجهات والسواتر الترابية والخنادق المحفورة في أحياء المدن، فضلا عن عدد من الهجمات الانتحارية وعمليات تفجير الألغام.
في نظرة تقييمية عامة لما يقوم به العمال الكردستاني، يمكن رصد التالي:
أولا، من الصعب الحديث عن أجندة داخلية للكردستاني، بل يدرك الجميع أنه أداة لضغط أطراف خارجية عدة على تركيا، لاسيما وأن التصعيد تزامن مع زيادة روسيا وجودها في سوريا، وبلغ ذروته بعد إسقاط مقاتلتها، كما تزامنت عدة تفجيرات مع استحقاقات إقليمية متعلقة بالأزمة السورية.
ثانيا، بات واضحا أن الكرستاني وذراعه السياسية حزب الشعوب الديمقراطي قد فقدا جزءا مهما من حاضنتهما الشعبية، بعد رفض أكراد الجنوب دعم حملة التصعيد وتنكرهم لدعوات الحرب الثورية والخروج والتظاهر التي وجهت لهم مرات ومرات، وإدانة معظمهم للعمليات الانتحارية والتفجيرات في المدن الكبرى.
ثالثا، يسعى الحزب من خلال نقل المواجهة إلى داخل المدن والبلدات الآهلة بالسكان إلى زيادة فاتورة الدم، ليكسب مرة أخرى الطيف الكردي من الشعب إلى جانبه.
رابعا، كما يسعى حزب الشعوب الديمقراطي بشكل حثيث للتناقض مع دستور البلاد، وفق تصرفات متواترة توحي برغبة قيادات الحزب في الحظر والمنع والمحاكمات للعودة إلى العمل السري في الظلام (كالدعوة للإدارات الذاتية والمشاركة في عزاء الانتحاريين)، تغذية لسردية المظلومية لكسب الشباب الكردي خاصة، والحاضنة الشعبية الكردية عامة.
خامسا، ثمة تنسيق واضح بين الحركتين الكرديتين – إن جاز اعتبارهما وحدتين منفصلتين – على طرفي الحدود التركية – السورية، بما ينقل الملف الكردي إلى مصاف مشكلة إقليمية.
سادسا، تحمل المشكلة الكردية بأبعادها الحالية بذور “تدويل” لا تحمد عقباه إن حصل، في ظل حالة الجفاء بين تركيا ومعظم حلفائها التقليديين، الذين يقدمون الدعم السياسي و/أو العسكري للفصائل الكردية المسلحة في سوريا المصنفة على قوائم الإرهاب التركية.
على الجانب الآخر من المعادلة، رأت الحكومة التركية أن سياسة غض البصر عن عمليات تكديس السلاح في جنوب شرقي البلاد خوفا على عملية التسوية لم تعد مجدية، ووجدت نفسها مضطرة للرد على سلسلة العمليات والتصريحات التي صدرت عن العمال الكردستاني، وهكذا أقحمت نفسها – أو أقحِمت – في دوامة التصعيد العسكري والأمني للشهر العاشر على التوالي.
ورغم إعلان وزير الداخلية التركية أفقان علا قبل أيام عن “نهاية العملية الأمنية برفع كل الحواجز والسواتر وردم كل الخنادق والأنفاق، إلا أنه يكاد لا يمر يوم دون سقوط قتلى من الجيش أو الشرطة التركية، فضلا عن عمليات التفجير والألغام الأرضية المستمرة حتى الآن.
الملحوظ في تعامل الحكومة التركية مع الأزمة هو اقترابها – والحزب الحاكم – من رؤية “الدولة” أو المؤسسة العسكرية – الأمنية بعد أن فرضت لسنوات طويلة رؤيتها هي في الحل، من خلال إنكار الساسة الأتراك وفي مقدمتهم اردوغان وجود “مشكلة كردية” في البلاد، رغم اعترافهم بوجود “مشكلة أو مشاكل للأكراد”، ومن خلال اعتماد الحل الأمني – العسكري منفردا حتى الآن في التعامل مع الملف، وفي الإعلان المتكرر عن رفض العودة للطاولة السياسية إلا بإلقاء آخر مسلح لسلاحه.
وما بين طرف مصرّ على حالة التصعيد وسفك الدماء، وطرف آخر مصرّ على فرض الأمن والنظام العام قبل العودة لطاولة الحوار السياسي، تبدو المشكلة الكردية في تركيا مفتوحة على المجهول، لاسيما إذا ما وضعنا بعين الاعتبار الأرقام التي تتحدث بها المصادر الرسمية التركية عن نتائج العملية الأمنية، والتي تتضمن مقتل الآلاف من مسلحي التنظيم (نسبة مهمة منهم من أبناء المنطقة) والمئات من عناصر الشرطة والجيش، وتهجير عشرات الآلاف (بعض المصادر تتحدث عن مئات الآلاف) من منازلهم وشوارعهم التي سوي الكثير منها بالأرض في ظل المواجهات.
لا شك أن صانع القرار التركي يدرك أكثر من غيره أن الحل العسكري – الأمني لن يكون مجديا، لكنه يعول من ناحية على إضعاف المسلحين الأكراد لإرغامهم على التراجع، ويضع عينه من ناحية أخرى على الرأي العام التركي والكثير من السياسيين (ومنهم حزب الحركة القومية المعارضة)، الذين ينادون برد حاسم وحازم، ويراعي ثالثا حساسية المؤسسة العسكرية التركية إزاء الملف الكردي التي صمت طويلا على رؤية حزب العدالة والتنمية التي همشت دورها في القضية، وهو تطور له دلالاته من حيث تزايد نفوذ المؤسسة العسكرية في القرار السياسي وصياغة الرؤية للحل.
على الحكومة التركية وعلى حزب العدالة والتنمية مسؤولية تاريخية بعدم السماح للأمور أن تتفاقم أكثر، حتى لا تصل لمرحلة التدويل أو اللاعودة، وهو ما يعني الافتراق عن الرؤية الأمنية المحضة وسد الطريق أمام السيناريو الذي يريده العمال الكردستاني. وبالتالي فعلى الحكومة والحزب الحاكم السير في طرق متوازية ومتزامنة هي:
1- المواجهة الأمنية – العسكرية التي لا بد منها، ولكن بالحد الأدنى الممكن.
2- التفريق الواضح والعملي والعلني بين المسلحين الأكراد والمكوّن الكردي من الشعب.
3- العمل على تقوية فواعل ولاعبين لمنافسة زعامة الحركة السياسية اليسارية بين الأكراد، من أحزاب ذات توجه إسلامي وشخصيات مرجعية ومؤسسات وعشائر ومنظمات مجتمع مدني. وهو حل لا بد منه على المدى البعيد.
4- فتح الأفق السياسي رغم المواجهة الأمنية المستمرة، ودونها قد لا يمكن إقناع الشباب الكردي تحديدا بالتخلي عن مشروع الكردستاني.
5- وكجزء من العمل السياسي، ينبغي الإسراع ما أمكن في ملف صياغة الدستور الجديد، الذي عليه أن يثبّت مبدأ المواطنة المتساوية أمام القانون ويرعى التنوع الثقافي والعرقي والإثني في البلاد على أساس هذه المساواة.
6- ورغم كل ما فعله وسيفعله حزب الشعوب الديمقراطي، إلا أنه ينبغي الحفاظ عليه كفاعل سياسي، أي عدم حظره أو وصمه بالخيانة، باعتباره الوسيط المقبول والممكن من الطرفين للتفاوض السياسي لاحقا. إذ رغم كل إجرام العمال الكردستاني، ورغم الدعوة لتقوية فواعل أخرى لتنافسه في الساحة الكردية، إلا أنه سيبقى على المدى القريب والمتوسط بلا منافس قوي من جهة، ومن جهة أخرى فإنه لا بد وأن يكون جزءا من أي تفاوض أو حل سياسي قادم باعتباره من يحمل السلاح في مواجهة الدولة، وأي حل يستثنيه قد لا يكتب له النجاح. وفي هذا الإطار فليس هناك أفضل – وربما غير – الشعوب الديمقراطي لتأدية دور الوسيط.
7- البدء سريعا بعملية إعادة إعمار المناطق المتضررة في جنوب شرقي البلاد وتعويض سكانها، لدحض بروباغندا الكردستاني حول قيام الحكومة بتهجير متعمد لأبناء المنطقة من الأكراد ضمن سياسة “هندسة مجتمعية” تحاول التخفيف من أغلبيتهم في تلك المناطق، لاسيما أن الدولة التركية كانت قد قامت بذلك فعلا على مدى عشرات السنوات السابقة.
في الختام، صحيح أن دعوات حزب العمال الانفصالية لا تلقى دعما كاملا من أكراد تركيا، وصحيح أن فكرة الحكم الذاتي لأكراد تركيا مشروع غير واقعي – حاليا على الأقل – بسبب انتشارهم على كامل الرقعة الجغرافية التركية (عدد الأكراد في اسطنبول يفوق عددهم في ديار بكر مثلا)، إلا أنه من الصحيح أيضا أن المشكلة الكردية في تركيا على شفا الخروج تماما عن إمكانية حلها محليا، بما قد يفتح الباب على التدخلات الخارجية التي لا تحمد عقباها ولا تؤمن نواياها.
كل هذا يضع العدالة والتنمية في مقام “أم الرضيع” الحريصة عليه أكثر من نفسه ربما، وهو ما يتطلب حكمة وصبرا ورؤية استراتيجية، وقبل هذه وذاك وتلك تنازلات قد تكون مؤلمة أو تبدو صعبة اليوم، لكن لا بد منها، فالقوي الواثق بنفسه فقط هو من يستطيع القيام بالخطوات الكبيرة الضرورية رغم مخاطرها.
المصدر : عربي 21