لأحوال وأسباب مُختلفة، ظهرت خلال الأسابيع القليلة الماضية نزعات خطابية سوريّة تسعى إلى إعادة تشييد مفهوم «سورية أولاً» كإطار لرؤيتها وطروحاتها لحاضر سورية ومُستقبلها. هذه النزعات سعت إلى الإيحاء بأن مُعضلة سورية إنما تكمن في الغُرباء المُتدخلين بقضايا السوريين، وأن ثمة مصلحة سورية عُليا يجب الإجماع عليها، وأنها وحدها قادرة على حلِ عموم المُعضلات السورية.
لكنها جميعاً كانت تُخفي خلف تلك الجُدران من الخِطابية الأهلانيّة جُملة من المرامي والطموحات المُناقضة لذلك تماماً.
كانت مضامين «ورقة العناصر الأساسية للحل السياسي للأزمة في سورية» التي قدمها بشار الجعفري للوسيط الدولي ستيفان ديميستورا، مع بدء الجولة الأولى من محادثات جنيف الأخيرة، أكبر تمثيل لتلك النزعات الأهلانيّة. فهي تُركز على «وحدة سورية وسيادتها ومنع التدخل في شؤونها… الخ»، ما اعتبره الجعفري «المبادئ» التي يجب أن تكون الإطار الذي على كُل السوريين الإجماع عليه، وبعد ذاك تغدو كُل مُعضلات السوريين سهلة الحل، من دون تدخلٍ خارجي!.
على مستوى أعمق يعبر الجعفري عن مدى مأزق النِظام ومؤيديه أثناء تلك المفاوضات. فأهل النظام يواجهون توافقاً روسياً – أميركياً لحل المسألة السورية حلاً ليس في مصلحتهم بأي شكل. وهُم في مواجهة هذا الضعف، لا يملكون أي خطاب ذي مضمون أو قضية ذات معنى، سوى «الوطنجية» التي تسعى الى دفع وإخراج مُشكلة سورية المركزية، أي هويّة ونمط حُكمها وحاكمها، من سياقها وسؤالها الجوهري، لتغدو مُشكلة مُصطنعة، قائمة على الأهلانيّة المُناهضة للآخر.
كانت تلك النزعات «الأهلانيّة» تنمو وتصعد مع نِظام الأسد ومؤيديه في كُل لحظات ضُعفِهم، إن أثناء تلقي خسائرهم الميدانيّة، كتحرير بلدات جسر الشغور ومدينة إدلب، أو أثناء تعرضهم لضغوط سياسيّة. فالهزائم في مواجهة السوريين أنفسهم، كانت تكشف الحجم الصغير الذي يشغله النِظام ومؤيدوه في التوازنات السياسية والديموغرافية الجُغرافية السوريّة، ومدى اعتماد النِظام ومؤيديه على ما هو غير سوري في هيمنتهم على سورية والسوريين، وما تلك النزعة الأهلانيّة السورية سوى محاولة للتغطية على ذلك التناقض العميق.
نزعة مُطابقة لذلك تماماً نمت وتصاعدت في أوساط المُعارضة السورية مع ظهور ميولٍ كُرديّة سورية للمُطالبة بالفيديرالية شمال البِلاد ولتطبيقها. فعلى نحو مُطابق لورقة الجعفري، نادت هذه الأهلانيّة الأخيرة بوحدة الهوية السوريّة وأولويتها وسيادتها، ونعتت المشاريع والطموحات التي لا تتوافق معها بالانفصاليّة والخارجيّة والتفتيتيّة، طارحة في شكلٍ عائم ومُجرد تصورات حول المشُكلة الكُرديّة، ومشاكل كل المكونات الاجتماعية والسياسية الأخرى، بحيث تتقدم «الهويّة السوريّة الجامعة» كأداة لتفكيك كُل تلك المُعضلات وحلها، مع التناسي المتعمد لحقيقة أنها تحتكر معنى ودلالة تلك «الهويّة السوريّة» المُتخيلة.
ويبدو واضحاً مدى استلهام تلك النزعة لميولٍ قومية «عربية»، لا ترى في سورية كياناً ومُجتمعاً مُركّباً للغاية. فهذه الطروحات الأهلانية تتجاوز ذلك تماماً، وتصر على المركزية السياسية كجوهر أيديولوجي وأداة تفسيريّة لكُل ما يُطرح من رؤى ومشاريع. فمفهوم «سورية أولاً» يؤمن لأصحابه تلك «المركزيّة السياسيّة»، لأنها وحدها القادرة على تحويلهم من «غالبية» مُجتمعيّة قوميّة وطائفيّة، إلى غالبيّة سياسيّة مركزيّة، تحتكر هويّة الكيان السوري، السياسية والثقافيّة.
فإذا صح أنهم يرفضون المشاريع المُناهضة للمركزيّة السياسيّة لأسباب تتعلق بالظرف السوري الخاص، وبالجهة السياسيّة التي تطرح هذا المشروع، أي حزب الاتحاد الديموقراطي الكُردي، فلماذا لم يطرحوا هم أي حلٍ أو مشروع واضحٍ غير عائمٍ وغير مُجرد لرؤيتهم السياسة لهوية سورية المُستقبلية، السياسية والثقافيّة، ويكون ذلك مع أطراف سياسية غير ذلك الحزب الكُردي؟ ولماذا تصر على جملتها عن «اللامركزية الإدارية» كحل لمشاكل سورية الكثيرة والعميقة في ذلك الاتجاه، وهو ما لا تختلف بأي شكل عن طروحات النِظام الترقيعيّة لمشاكل البلاد ذاتها.
على ان آخر تجليات تلك النزعات الأهلانيّة السورية، تأتي من حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي نفسه، والذي يستميت لإظهار تبيانه عن النظام السوري والتيارات الشمولية السورية الأخرى. فهو من خِلال كل مُمارسته وخِطاباته ومؤسساته، يسعى إلى إظهار قدر كبير من الاحتفاء بالهويّة السورية المُركّبة، عبر إشراك شخصيات وتيارات سياسية عربية وسريانية وتُركُمانية في تلك المشاريع والخِطابات، ليقول بمعنى ما «هذه سورية التي يجب أن نتفق عليها، والتي يجب ان تجمعنا بعيداً من تطلعات الآخرين، وبالذات الجار التُركي».
لا يبدو صعباً كشفُ كمّ المخادعة في تلك الصورة الظاهرة، وكونها تُخفي عمق الميول الشمولية لهذا الحزب. فالمشتركون معه ليسوا إلا أدوات وأجهزة مُلحقة بمؤسساته وخياراته السياسية الخاصة، وليسوا شركاء متساوي القدرة والسلطة معه. فالحزب الكردي إنما يسعى عبر ذلك إلى استبعاد الشُركاء الحقيقيين وتحطيمهم في أي مشروع سوري حقيقي، سواء كانوا كرداً أو عرباً أو سرياناً أو تُركماناً.
المصدر : الحياة