تصاعدت حدة الاشتباكات في الأيام الأخيرة في سورية على أكثر من جهة وبخاصة حلب، تحت عنوان «الهدنة الإنسانية» التي لا تحترم من الفرقاء المقاتلين. فما هي أسباب وأبعاد هذا التصعيد وأين هي الحرب السورية مع بداية عامها السادس وهل من متغيرات جذرية؟
وإضافة إلى ذلك ما معنى أن يقول وزير الخارجية الأميركية جون كيري «إن الوضع في سورية أصبح خارج السيطرة»؟
وللتعليق على كلام كيري نسأل: هل كان الوضع سابقاً تحت السيطرة حتى يخرج الآن عنها؟
المواقف الأميركية باتت تشكل استخفافاً بعقول الناس المتابعين للشأن السوري. فالسيد كيري يكتفي بإطلاق «الكلام الكبير» في شكل تصريحات لا تجد لها الصدى المطلوب، وبخاصة عندما يصعّد ضد «الشريك الروسي» في البحث عن السلام السوري، ليتضح أن كيري يكتفي بالكلام ولا أفعال، وأن القيصر الروسي فلاديمير بوتين ماض في اتخاذ كل المواقف التي تتلاءم مع مصالح روسيا.
على صعيد الموقف العام:
دخل الرئيس أوباما مرحلة الوداع التدريجي لمغادرة البيت الأبيض، وضمن تصوره يعمل بمعزل عن الضغوط السياسية طوال فترة حكمة.
كانت فترة الولايتين مدعاة للكثير من النقاش حول الآمال التي علقت على دخول أول رئيس غير أبيض إلى البيت الأبيض. عندما منح جائزة «نوبل للسلام» وكان لا يزال حديث العهد في الرئاسة، قوبل الاختيار بالعديد من الانتقادات إذ جرت العادة أن تمنح الجائزة تقديراً لإنجازات سلمية تحققت، وهو لم يحقق شيئاً بعد، فيما كان الجواب على المنتقدين أن هذا التقدير المعنوي الكبير ربما حصل عليه المكرم كتشجيع على تحفيز الرجل للقيام بمبادرات تنشر ثقافة السلام في المناطق المضطربة وما أكثرها ومن منطلق أهمية الدور الذي تضطلع به الولايات المتحدة الأميركية في شتى أصقاع الأرض.
لكن لأسباب متعددة لا مجال هنا لتعدادها، لم ينجح أوباما في تحقيق الأمنيات الملقاه على عاتقه سواء في المناطق المشتعلة في الشرق الأوسط، وفي الفشل الذريع في مواجهة الإرهاب، ناهيك عن الفشل الذريع في تحقيق أي تقدم على صعيد الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، والعربي – الإسرائيلي، وأخيراً وليس آخراً الغرق في المستنقع السوري، وهنا كثير من الكلام يجب أن يقال.
وفي ما يعمل أوباما على إعداد حقائبه استعداداً لمغادرة البيت الأبيض، ارتفعت بعض الأصوات التي تطالب بـ «تجريد» ـه من «نوبل للسلام»، احتجاجاً على المواقف التي اتخذها أو لم يتخذها، ولدى الدخول في تفاصيل تعقيدات الأوضاع الشائكة في سورية، ميدانياً أو في المحادثات التي تشهدها مدينة جنيف من حين إلى آخر، فإن وفد النظام برئاسة السفير بشار الجعفري يتحدث بلغة فيما وفد سائر المعارضات يتحدث بلغات أخرى مختلفة، وعندما يطرح الحديث عن مصير الرئيس بشار الأسد تأتي المواقف متباعدة جداً. فالمعارضات لا تريد أن ترى أي دور له فيما وفد النظام يؤكد أن من يقرر مصير الأسد هو الشعب السوري!
ماذا يعني هذا الكلام؟ يعني عودة الحل إلى الإطار السوري السوري، وأن مصير الأسد لا يتقرر في محادثات جنيف. ويسعى الوسيط الأممي ستيفان دي ميستورا بكل ما أوتي من «قوة إقناع» لإبقاء المحادثات مستمرة، كي يبقى بالتالي دوره مستمراً. وفي الزيارة الأخيرة لموسكو سمع الوسيط ما يريد أن يسمعه من وزير الخارجية سيرغي لافروف الذي يرفض رفضاً قاطعاً الانتقال للحديث عن «النقلة السياسية للوضع في سورية»، وهذا يفترض تشكيل فريق عمل سياسي من مختلف الأطراف ليتولى المرحلة الانتقالية.
ويؤكد مصدر قريب من الوفد الروسي المتابع لمفاوضات السلام أن كل المحادثات التي جرت وتجري لن تصل إلى «نهاية سعيدة»، لأن أطراف النزاع غير متوافقة على نقاط محددة للحل.
ويعتقد «المصدر الروسي» بأن المفاوضات لن تنجح سياسياً، وأن العمليات العسكرية ستستمر لتدمير ما تبقى من معالم سورية لا تزال قائمة في مدينة حلب، أو في غيرها من المدن. وفي الحديث عن حلب تعرضت أقدم مدن العالم للعديد من أعمال القصف، وكل فريق يتهم الآخر بالقصف العنيف وبخاصة «مستشفى السلام» الذي تعرض لإصابات مباشرة قضت على ضحايا كانوا يتلقون العلاج.
وميدانياً كُشف عن المعلومات التالية لواقع الأمور في مختلف المحافظات والمرافق السورية. واستناداً إلى خرائط محدودة فمحافظة إدلب في أقصى شمال غربي سورية هي المحافظة الوحيدة الخارجة بالكامل عن سيطرة النظام وسيطرة «داعش» والمليشيات الكردية. وفي المقابل فمدينة طرطوس هي المحافظة الوحيدة التي تسيطر عليها قوات النظام والحلفاء من الجنود الروس بالكامل. ونشرت معلومات توضح بالنسب المئوية مدى سيطرة قوى النظام والقوى الأخرى عليها واستناداً إلى هذه الخرائط هناك المعلومات التالية:
تتركز مناطق نفوذ النظام في طرطوس (مئة في المئة) ومدينة اللاذقية (95 في المئة) والسويداء (93 في المئة) وفي محافظة دمشق (89 في المئة) ومحطة ريف دمشق (74 في المئة) ثم حماه (52 في المئة)، وينحسر نفوذ النظام في درعا (30 في المئة) وحمص (25 في المئة) والقنيطرة (19 في المئة) وحلب (12 في المئة) والرقة (2 في المئة).
واستناداً إلى الخرائط فإن «داعش» يتركز وجوده في محافظة دير الزور حيث يسيطر على 89 في المئة بينما يتقاسم مع المليشيات الكردية محافظة الرقة (75 في المئة) كما يسيطر في محافظة حلب على 49 في المئة، ثم يتراجع نفوذه في محافظات حماه (33 في المئة) وريف دمشق (21 في المئة) والحسكة (13 في المئة) السويداء ( 5 في المئة) ودرعا (5 في المئة) وصولاً الى مدينة دمشق (1 في المئة) والقنيطرة (1 في المئة) ليختفي حضور «داعش» في محافظات طرطوس واللاذقية وإدلب.
وتتابع الخرائط: فصائل «الجيش الحر» (ومعها «جبهة النصرة») يتركز وجودها في محافظة إدلب، ثم في محافظات القنيطرة (79 في المئة) ودرعا (64 في المئة) ليختفي حضورها في محافظات طرطوس والرقة والحسكة ودير الزور.
وإذا ما سلمنا بجدية النسب المئوية المرافقة للخرائط فهي لا ترجح وجود «داعش» والقوى الأخرى المعارضة في مواقع محدودة، بل هي منتشرة في شتى أرجاء المحافظات السورية.
على أن القراءه الروسية لتطورات الأحداث، كما شرح أحد الخبراء المواكبين لمحادثات – جنيف، فكالتالي: كل ما يجري حالياً هو لإكمال عملية التفاوض الشكلية التي لا يعلق عليها الروس أهمية. فموسكو لا تؤيد تقرير مصير الأسد في مفاوضات – جنيف، ويردد أحد الخبراء ما يقول وزير الخارجية سيرغي لافروف: هذه المسألة يقررها السوريون أنفسهم في انتخابات عامة.
وهذا يعني بوجه الإجمال عودة أو إعادة الموضوع إلى سياقة السوري – السوري والتفاوض في ما بين الأطراف المتنازعة. على أن ما تستشعره موسكو من دون أن تعبر عنه صراحة، أن تنظيم «مرحلة الانتقال السياسي» لن يكون بهذه السهولة وأن الوفود في جنيف ستفشل في التوصل إلى حل نهائي.
وعليه تخلص مجموعة خبراء متابعين إلى أن الكلام عن «تقسيمات سورية معينة» ليست بعيدة من منطق الأمور، وربما يحتاج الوضع إلى المزيد من التدهور ليتأكد لمختلف الأطراف أن إعادة تجميع الخريطة السورية في جغرافية واحدة ستكون من المستحيل! الأمر الذي يطرح موضوع… التقسيم في شكل تلقائي.
وبعد…
أولاً: إن التصعيد الكبير والخطير الذي شهدته مجموعة جبهات في طول الخارطة السورية وعرضها، أعطى الانطباع وكأن المواجهات الميدانية واللوجستية لم تعد تقتصر على عمليات الكر والفر، بل إن المعارك الأخيرة وبخاصة في حلب وريفها مؤشر إلى التركيز على «حسم عسكري ما».
ثانياً: يتزامن هذا التصعيد مع الموقف الأخير للأسد، في معرض رسالته إلى بوتين، والذي تضمن الإصرار على متابعة المواجهات العسكرية «حتى النصر الأخير». وهذه التهديدات لا تطلق جزافاً، وهي تعطي موسكو الحجة للظهور بمظهر «الضاغط» عليه للأخذ ببعض الاعتبار إجواء الهدنة والغايات الإنسانية!
ثالثاً: إن سورية اليوم مع توزع انتشار المقاتلين من كل حدب وصوب فيها وعبر صيغة «كونية»، هي ولا شك مقسمة… ولا يغير الكثير من هذا الموقف التقسيمي أي كلام عن عدم وجود مخطط للتقسيم، فمثل هذا لا يصدر بقرار بل هو أمر واقع يتكرّس في ضوء عمليات الفرز السكاني المذهبي والطائفي والعرقي المنتشر. ولذا لا يجدي نفعاً ترداد الكلام وفي شكل ببغائي حول رفض تقسيم سورية، لأنه لا يعني فعلا عدم وقوعه.
رابعاً: من مفارقات الحرب السورية ملاحظة الرابط الوثيق بين عمليات التدمير الممنهج وحالة التنافس الحادة القائمة حالياً حول إعادة بناء سورية – بعد إنهاء الحرب، والتي قدّر بعض الخبراء تكاليفها بأنها تتخطى مبلغ الثلاثمئة بليون دولار أميركي في المراحل الأولى لإعادة البناء.
خامساً: إن ارتدادات الزلزال السوري لا تزال تشكل الخطر الكبير، ليس في أرض المعارك بل في دول الجوار للحرب المستعرة وفي طليعتها لبنان، التي تتأثر نتيجة تواصل التصعيد العسكري في سورية.
وقى الله لبنان من الداعشيين والنصراويين ومن لفّ لفّهم، وفي المناسبة لا يمكن لبنان أن يبقى معتصماً بـ «النأي بالذات» لدرء الأخطار المستعرة من حوله.
بين «ذكاء» القيصر المعاصر فلاديمير بوتين وتخبّط المغادر باراك أوباما إلى درجة الغباء تحت شعار «التذاكي»، يتوقف مصير المنطقة على صعيد التلاعب والتحكّم بقدر شعوبها في المستقبل.
إن الأجواء البركانية السائدة تمثل أخطاراً بالغة الجدية، منها ما في الحسبان ومنها ما ليس في الحسبان.
وفي الكلام الأخير، تعبير جديد دخل على مفردات التداول في المنطقة وهو «الإيرانوفوبيا» بقلم المرشد الأعلى السيد علي خامنئي.
وللحديث تتمات وتتمات.
المصدر : الحياة