مقالات

حبيب عيسى: سوريا.. من يضربها ومن يتضارب فيها وعليها؟

(1)

 

لعل أشد اللحظات قسوة على النفس البشرية هي تلك التي يتعرض فيها الإنسان للحصار والإيذاء إلى درجة الاختناق، ومع ذلك لا يجرؤ حتى على الصراخ. عندها تتفاقم آلامه إلى درجة يفقد معها القدرة على تحديد مصادرها، مادياً كان أو معنوياً، حيث تضاف حالة القهر إلى حالة الحصار والآلام ما يؤدي غالباً إلى حد الموت كبتاً. وهذه الحالة كانت وستبقى موضوعاً للبحث من قبل علماء النفس، ولعل البحث الذي تضمنه كتاب «سيكولوجية الإنسان المقهور» للدكتور مصطفى حجازي قد أضاء على بعض جوانب تلك الحالة «السيكولوجية» المأساوية التي نعيشها هذه الأيام… وهو ما يعرضنا لما يسمونه «الوسواس القهري»، ولعلي هنا أستذكر تلك الدعوات المتكررة التي تلقيتها لمغادرة الوطن إلى أجواء الأمان في بلدان الاسترخاء، حيث كنت أواجه تلك الدعوات بأسئلة استنكارية: فهل هناك أمان واسترخاء بعيداً عن الحرائق التي تلتهم الوطن والذكريات والأعزاء؟، أليس الاحتراق بتلك النيران قد يكون أقل إيلاماً من الفرجة عليها من بعيد؟، ثم، لماذا أغادر؟، وماذا يمكن أن أقدم إذا غادرت؟، وسرعان ما كان يأتيني الجواب صادماً، يقولون: على الأقل في الخارج أنت آمن على حياتك…، أنت قادر على التعبير عن رأيك بحرية…، أنت قادر على الصراخ كما تريد…، وكان جوابي دائماً بعد تقديم الشكر والاعتذار: ان الأمان إما أن يكون وطنياً أو لا يكون، فالأمان الفردي مجرد وهم…، كما أن حرية الرأي والموقف في ظل ظروف الاغتراب والحاجات المادية مشكوك فيها على الأقل… فالصراخ من الخارج قد يكون أكثر خطراً من الكبت والقهر في الداخل. ففي الداخل، على الأقل، هناك إمكانية الصمت عندما يُحّرم عليك الكلام، ثم من قال إن الجهر بالحق في زمن الطغيان لا يستحق الثمن؟

(2)

هل أقول ذلك في معرض التبرير؟ هل أقول ذلك في معرض الرد على من يستغرب الصمت أو الضبابية في بعض المواقف؟ أو الغموض واللجوء إلى الترميز في أخرى؟ بالتأكيد: لا. كل ما في الأمر هو اعتراف مني بأنني أجد نفسي عاجزاً، في بعض الأحيان، عن قول كل ما أود قوله مباشرة، وبالتالي أبحث عن شركاء لي في النص الذي أكتبه بحيث يكون القارئ ليس مجرد متلقٍ، وإنما شريكاً في النص وفي تأويله وربما للبناء عليه والذهاب به إلى غايات ربما لم تخطر لي، وهكذا فإنني ومنذ حوالي ست سنوات عندما بدأت الكتابة على هذا البساط، «بساط الثلاثاء» وجهت الدعوة إلى جميع الذين يفترشونه للتدخل في هذه النصوص لبعثرتها، وإعادة تركيبها بإكمال النواقص، هنا، وسد الثغرات، هناك، حذفاً، وتعديلاً، وإضافة، وبالتالي نصل إلى وثائق وطنية لا تُنسب إلى فرد بعينه، وإنما إلى جماعة إنسانية تتكامل جهودها وتستكمل وعيها بتجاوز الفردية والشخصانية تتقاسم المهام ويتكامل وعيها فالمسكوت عنه هنا يتم الجهر به هناك للوصول إلى غائية نبيلة تعثرت أجيال متلاحقة لهذه الأمة في الوصول إليها نتيجة عوامل ذاتية بالغة التعقيد، فتشكل تلك الوثائق بمجملها عقداً قومياً وطنياً اجتماعياً يمكن أن يكون حاملاً، وحجر الأساس لمشروع نهوض وتحرر وحرية وتقدم ما زال جيلنا الهرم يتعثر في إطلاقه، بل ويكاد يورّث عجزه للأجيال التالية.

(3)

كما انني لا أقول ذلك في معرض النيل من الذين لجأوا إلى الخارج، فأنا أدرك حجم المخاطر والضغوط الني اضطرت العديد من الأصدقاء والمناضلين للمغادرة إضافة للأطفال والنساء والشيوخ الذين هجرّتهم الخرائب والقذائف والمخاوف وروايات التوحش المرعبة، لكن، ومع التقدير لتلك الظروف المأساوية، لا بد من الاعتراف أن مغادرة أعداد هائلة من الشباب الثائر، ومن المعنيين بالثورة إلى الخارج قد ترك فراغاً خطيراً في الداخل أدى إلى الانتقال من نداء الحرية والمواطنة والمساواة والشعب السوري الواحد إلى عصبويات التدمير الاجتماعي والوطني، واللافت أن ذلك الهروب الكبير للخارج لم يكن عفوياً، وإنما تم بفعل فاعل ذلك أن كل القوى المتضاربة في الداخل إضافة إلى القوى الضاربة من الخارج كانت معنية منذ اللحظة الأولى بالتصدي للربيع العربي ودفنه في دمشق، وهذا لن يتحقق لهم إلا بتفكيك النسيج الاجتماعي الوطني بتحويله من قوة ضاربة إلى قوى متضاربة، ولذلك تضافرت جهود كل القوى المتصارعة من أجل منع قيام كتلة وطنية في الداخل السوري تكون الحامل للمشروع الوطني لإنها وحدها يمكن أن تشكل بوصلة وطنية وعاصماً للقرار الوطني وللوحدة الوطنية وللنسيج الوطني في مواجهة وإفشال الأجندات المتضاربة في، وعلى الساحة السورية. لقد كان واضحاً منذ اليوم الأول أن القوى الضاربة لسورية من الخارج تستدرج المعارضين والناشطين إلى الخارج لتشكيل كيانات صورية، وتقدم إغراءات لا حدود لها: أن تفضلوا وغادروا سوريا وستكون القوى الدولية الضاربة بخدمتكم وملك يمينكم وكل ما تطلبونه مجاب، وكان ذلك الموقف من الخارج يتكامل مع مواقف التضييق والقمع والتهديد في الداخل، وبالتالي الدفع باتجاه المغادرة إلى الخارج، فالهمس بالداخل ممنوع، وحتى الصمت محفوف بالمخاطر، فمن شاء منكم أن يتكلم ويعارض فليخرج من البلاد حيث من السهل هناك اتهامه في وطنيته وأنه يعمل لأجندات خارجية لا وطنية، وللأسف الشديد وقع الكثيرون في هذا الفخ المتمثل بإغراءات الخارج ومخاطر الداخل، فتدافعوا للمغادرة وتشكيل كيانات صورية خارجية، تبيّن في ما بعد، أن تصنيعها في الخارج تم لتشويه نضالات الشعب في سوريا عبر الصراعات التي تثار داخلها، وعبر ضخ الفساد وتضخيمه داخل مؤسساتها، وعبر تصارع الأجندات الخارجية داخل تلك الكيانات ما يؤدي إلى تفتيتها، ليقال بعد ذلك أن القوى الخارجية شرقاً وغرباً متعاطفة مع الشعب السوري لكنها لا تعثر على قوة تمثيلية لهذا الشعب، ثم لينعكس ذلك على الداخل السوري سلباً وتشويهاً وقطعاً للطريق على تشكيل كتلة وطنية تمثيلية حقيقية في الداخل، وهكذا انتقلت صراعات الداخل لتفتت قوى الخارج، وانتقلت صراعات الخارج لتفتت قوى الداخل، ولتبدو المشكلة وكأنها في الشعب السوري، للتغطية على الأجندات الخارجية الخبيثة، واكتشف هؤلاء وأولئك في الداخل والخارج الورطة التي وجدوا أنفسهم فيها، فالقوى الخارجية الدولية والإقليمية وما تبقى من النظام الإقليمي العربي تبين لهما أنها العدو الأول لحرية الشعب العربي في سورية، لكن هذا الاكتشاف جاء بعد فوات الأوان، أما الذين راهنوا في الداخل على قوى خارجية فقد فقدوا مصداقيتهم ايضاً، هكذا انسحب من انسحب وتوالدت تشكيلات صورية أخرى في الداخل والخارج تكرر المآسي السابقة.

لقد غاب عن أذهان الكثيرين قاعدة استقرت لدى حركات التحرر عبر التاريخ يمكن اختصارها بعبارات قليلة، وهي: أنه لا يمكن أن تنتصر ثورة من الخارج، نعم يمكن أن يكون لكل ثورة مركز أو رمز يعبر عنها في الخارج، لكن يجب أن يكون ناطقاً باسم حركة وطنية مركزية في الوطن لا أكثر ولا أقل، أما عندما تفتقد الثورة قرارها المركزي في الداخل، فإنها تفتقد وحدتها في الداخل والخارج معاً، وتتحول من ثورة وطنية إلى أدوات ورهينة لدى أجندات التخريب الداخلي، والاعتداء الخارجي.

هنا، قد يثور سؤال مشروع: ما علاقة ذلك كله بعنوان هذا الحديث؟

أرجو ان تسمحوا لي بمقاربة هذا الموضوع من زاوية مختلفة، ذلك أنه ومنذ عقود تم تغييب الموقف الوطني والقومي فلم تعد الأسئلة: ماذا نريد نحن، وكيف نحقق إرادتنا ومع من تتقاطع مصالحنا سلباً أو إيجاباً في هذا العالم؟ وإنما باتت الأسئلة تعبّر عن حالة الاستلاب التي تعيشها الأمة في الكل القومي، وفي الأجزاء على حد سواء، فتمحورت تلك الأسئلة حول: في ركاب من يجب أن نسير؟ وفي أي خندق يجب ان نتخندق: خندق الأميركان، الروس، الإيرانيين، الأتراك، الصهاينة، الأوربيين، وهكذا…؟ وبالتالي لم يعد السؤال: ما نحن فاعلون؟ وإنما ماذا سيفعلون بنا؟ وهذا كله نجم عن تغييب الهوية الحقيقية للأمة، في الكل وفي الأجزاء على حد سواء.

(4)

الآن، كيف تتم ترجمة هذا الواقع المأساوي، وكيف يعبر عن نفسه مما يجري؟ يتم طرح السؤال: هل أنت مع ضرب التحالف الدولي لسوريا، وقد تنفعل، فهل يُعقل أن يُسأل مواطن في أي وطن كان، إن كان مع ضرب وطنه من أي جهة خارجية تحت أي سبب من الأسباب؟ لكن علينا ان ندرك أن تلك الأسئلة المُهينة تعبّر عن واقع الحال الموضوعي، فعندما يتحول المجتمع من مجتمع مواطنة كقوة ضاربة إلى قوى عصبوية متضاربة، تتحول تلك القوى على تنوعها إلى أدوات ليس لوطنها، وإنما أدوات لهذا أو ذاك في هذا العالم.

هذا كله يعني ان الأسئلة التي يجب ان نطرحها على أنفسنا: لا يصح أن تنطلق من مبدأ مع من نحن؟ ولا بأجندة من سنعمل؟ وإنما علينا قبل كل شيء أن نستعيد الإرادة والقرار، فنحدد أولاً من نحن؟ وماذا نريد؟ وما هي الطريق إلى ذلك الذي نريده؟ وهذا لن يتحقق في الكل العربي وفي الأجزاء إلا بتحديد الهوية على الصعيد القومي، واستعادة مبادئ وقيم المواطنة على صعيد الأجزاء، وهذا لن يكون إلا بالدعوة للالتزام بعقد اجتماعي وطني يضمن العدالة والمساواة والحرية للمواطنين جميعاً من دون تمييز على أي أساس طائفي أو مذهبي أو عنصري أو مناطقي. عندها فقط، يمكن أن نواجه هذا التوحش الداخلي والخارجي الذي يدمّر الإنسان والعمران وينتهك النسيج الوطني.

إن عملية الفرز باتت حاجة ملحة ومصيرية لشعبنا ووطننا لمواجهة هذا العدوان متعدد الأطراف على وطننا وشعبنا، ففي كل جماعة وطائفة ومذهب وأثنية، عصبويات متوحشة تتنافس في التوحش وتمارسه. لكن في كل منها أيضاً طاقات وطنية إنسانية تنشد الحرية والعدالة والمساواة والمواطنة المتساوية، وتنبذ التوحش. آن الأوان لها ان تنتزع المبادرة من عصبويات التوحش، أما كيف يتم ذلك؟ فهذا هو السؤال الذي يجب أن تتضافر الجهود الوطنية كافة للإجابة عليه!

السفير

زر الذهاب إلى الأعلى