مقالات

القدس العربي – مفارقات رمضان السياسية والمذهبية

تناقلت وكالات الأنباء في اليومين الماضيين صور وأنباء بدء شهر رمضان الكريم، فيما تبادل ملايين المسلمين التهاني والتبريكات والأمنيات، لكن الأنباء حملت أيضاً الكثير من المفارقات، بعضها لم نعد نفكّر فيه باعتباره جزءاً من المعتاد، لكن ذلك لا يعني أن نمر به من دون تحليل أو تأمل… لعلّكم تعقلون!

أولى هذه المفارقات طبعاً هو الاختلاف السنويّ المعتاد على يوم البدء برمضان والحجة المعتادة في هذا الشأن طبعاً هي اعتماد الرؤية بالعين المجرّدة، وهو أمر لم يعد ضروريّاً مع وجود الحسابات الفلكية وطرق التأكد العلميّة، ويضاف إلى ذلك أن المنطق يقول إن إثبات توقيت بدء رمضان في أي بلد مسلم يفترض، عقلاً، ثبوته في كل بلد آخر.

لكن يبدو أن العقل والمنطق وحتى أسس «القياس الشرعيّة» شيء والذي ما زال جارياً في البلدان الإسلامية شيء آخر، فرغم أن السعودية وقطر والامارات والكويت والبحرين والأردن وسوريا ولبنان ومصر والجزائر وتونس وليبيا وماليزيا وأندونيسيا وصولاً إلى استراليا وروسيا (وحكومتي اليمن الشرعيّة والحوثية) أعلنت كلّها ثبوت بدء رمضان أمس الاثنين فإن بلدين عربيين هما سلطنة عُمان والمملكة المغربية اعتمدتا يوم الثلاثاء بدلاً من الاثنين.

لكن الأغرب من ذلك هو أن بلداً مثل العراق، الذي يتعرّض مواطنوه لأشكال الحرب والقنص والتفجير والنزوح واللجوء والتدخّل الخارجيّ المفرط بشؤونه وانحطاط سيادته الوطنية وتآكل جيشه وقوّاته المسلّحة أمام صعود الميليشيات الطائفية المسلّحة، لم يغيّر شيئاً من عادات مرجعيّاته الدينية التي نيّفت على أكثر من ألف عام من الافتراق المقصود في هذا الأمر الذي لا يحتمل اختلافاً، فإمّا أن يرى العراقيون، شيعة وسنّة، هلال غرّة رمضان، فتثبّت الرؤية موعد بدء شعب واحد بالصيام، وإما أن لا يروه فيتأخر يوماً، وهو أمر لا يحصل أبداً، فشيعة العراق و(باقي البلدان العربيّة طبعاً) يخالفون سنّته في بدء الشهر، ويصومون ويفطرون ويعيّدون بعد أقرانهم من المذهب الثاني بيوم.

وإذا سلّمنا، صاغرين، بأن الاختلاف في يوم الصيام والفطر والعيد أمر ممكن تحمّله كضريبة للاختلافات العقيدية، لأن الاختلاف في شؤون الطقوس والمعاملات أقلّ ضرراً بكثير من الاختلاف المذهبيّ بأدوات الحرب وسفك الدماء (كما هو حاصل في اليمن وسوريا والعراق ولبنان) فالمنطق يقول، مجدداً، إن هذين مرتبطان، فلو سعى حرّاس العقيدة لردم الاختلافات الطفيفة باعتماد العقل والعلم والحسابات الفلكية لكان ممكناً ربما وقف الاختلافات الكبيرة؟

كانت الخلافات المذهبيّة، في بداياتها، تعبيراً عن اختلافات سياسية عنيفة، وقد خلّفت معاركها الأولى، مجسّدة في وقعتي الجمل وصفين، قرابة ثمانين ألف قتيل بينهم المئات من صحابة الرسول، لكنّ أهمّ ما فعلته أنها حوّلت الصراع السياسي إلى دينيّ بين الشيعة والسنّة، وأفتى، عبر العصور، شيوخ كثر بما نراه اليوم من إجرام وبشاعات وتحليل لدماء وأعراض المسلمين، وها إننا اليوم نعيش مجدداً اختلافات سياسية حادّة لكنّها صارت أكثر فتكاً باعتمادها الخلافات الدينية والمذهبية.

لا نتوقّع أبداً في ظروف الانحطاط السياسي الهائل لبلادنا العربيّة أن نرى تغييراً في طرق تفكير الساسة (ورجال الدين) الذين يستغلّون الخلافات المذهبية لجمع أموالهم الحرام أو لسفك دماء مواطنيهم والذين يكاد ينطبق عليهم وصف القرآن الكريم في سورة الأعراف (آية 28): «إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون»؟

نأمل، صادقين، أن يكون رمضان هذا خيراً على المسلمين، وأقلّ وطأة على الشعوب المظلومة في بقاع الأرض كلها.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى