لا يختلف اثنان على ضخامة الاستهداف الذي تعرّض له حزب الله، عبر اغتيال المسؤول الأبرز عن جهازه العسكري والأمني والملاحق دولياً، مصطفى بدر الدين، إلا أنه لا بد من الإشارة إلى أن كيفية تعاطي الحزب مع مفاعيل هذا الاغتيال، وتحليل خياراته في الرد، توازي، من حيث الأهمية، ضخامة مصابه هذا.
هنا، يساعدنا التحليل “البارد” (أي غير المتسرّع) على استيعاب الحدث، وهضمه في سياقه الأوسع، إلا أن أي محاولة تحليلٍ لهذا الحدث، ولو كانت “فاترة” أقله، أي بمعنى أنها تريد التعليق المباشر، وتحاول تفادي التسرّع، لا يمكنها إلا أن ترى ما حصل في الإطار السياسي العام لخيارات الحزب في السنوات الأخيرة. وكيف حوّلت هذه الخيارات الحزب من كونه القوّة المحليّة التي كسرت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر إلى قوّة “احتلال” إقليمية، تحاول كسر إرادة شعبٍ يبرهن، مع الوقت، أنه لا يُقهر. لذا، فلندع جانباً البعد القيمي من تحليلنا، بمعنى أن يُحيّد مسألة التقهقر الأخلاقي لمواقف الحزب، وتحديداً انتقاله إلى نصرة نظام ديكتاتوري، لا يقل فاشية ودموية عن المجموعات التكفيرية التي يدّعي الحزب أنه يقاتلها حصراً في الميدان السوري. ولتجري محاولة تقييم هذه الخيارات من ميزان الربح والخسارة لمشروع الحزب نفسه.
في أقل من خمس سنوات، خسر الحزب مروحةً واسعةً من الصداقات التي شكلت أكبر مظلة حماية دولية وإقليمية، قُدّمت لقوّة مقاومة في التاريخ الحديث، بما في ذلك منظمة التحرير الفلسطينية التي، وعلى الرغم من الدعم والاحتضان الذي تلقته، إلا أنها لم تلق الدعم السياسي واللوجستي الذي قدّمه حلفاء الحزب، فانتهى بامتلاك أكبر شبكة أعداء وخصوم إقليمية ودولية، وصل صداها إلى إيران في بعض الأحيان. اليوم الحزب هو صاحب الفلسفة النقيضة لرؤية رئيس الوزراء التركي السابق، أحمد داود أوغلو، فالحزب محكوم بمعادلة “الصفر أصدقاء” إقليمياً وبالتأكيد دولياً.
فائض القوّة والكارزماتية الذكورية التي ضخّت في لاوعي جمهوره أنست حزب الله أن السلاح، أي سلاح، مهما عظم شأنه، وعلت قدرته التدميرية، فإن ميزان القوى الدولي قادر على كسره، وأن قوّة الردع الأولى والأخيرة تكمن في مدى التراص الوطني والشعبي مع الخيارات السياسية والميدانية التي يعتمدونها. والأمثله كثيرة عبر التاريخ من ستالينغراد إلى هانوي إلى بيروت (1996 و2006)، وانتهاءً بدرعا وحمص وحلب. فكيف الحال، وأنت تعتمد خياراتٍ سياسيةٍ، يخاصمها نصف المكونات الاجتماعيه الداخلية، وتفرضها على شعب آخر يعاديها بحوالى الثلثين على أقل تقدير! فعن أي مناعةٍ وحصانةٍ يتكلمون.
في هذا السياق، تصبح ردود أفعال الحزب على أي استهدافٍ يتعرّض له مربوطة حكماً بالحفاظ على صورته، كالقوّة الإقليمية التي لا تُقهر، والتي حاول ترسيخها في الفترة الماضية. إلا أن التعليق الأولي على خبر الاغتيال يشي بارتباك وتأزمٍ كثيرين، إنْ من ناحية تفسير الفعل، وإنْ من ناحية الرد عليه. فكيف سيتفهم جمهور المقاومة المُتخم بالوعود بالانتصارات وأساطير التفوّق الأخلاقي والميداني تساقط أبرز قياداته، واحداً تلو الآخر في دمشق، الخاصرة الرخوة للحزب.
فاليوم، يقف الحزب مربكاً أمام خياراته في الرد على اغتيال بدر الدين، فلو كانت إسرائيل من تقف خلف الاغتيال، فالحزب يعلم أن أي رد بالمستوى نفسه يعني انهيار معادلة الردع القائمة، والذهاب إلى صراع تدميري مفتوح، في ظل تمتعه بصفر حمايه إقليمية ودولية، وحتى تقهقر كبير في جبهته الداخليه على مستوى التراص الوطني، أو حتى الجهوزية النفسية لقواعده الشعبية التي ما تزال ترثي أفلاذ أكبادها الذين سقطوا في سورية. فعملياً اللحظة التي أعلن حزب الله فيها امتلاكه القدرة على الردع العسكري هي التي فقد فيها قدرته على الحراك الميداني في جبهته الجنوبية، فتوازن الرعب الذي يتفاخر بإرسائه هو، في الوقت نفسه، توازن “سلم” يفرض على الجميع نوعاً من الحذر والتريث، والذي قد يصل إلى حدود الشلل الميداني.
وإنْ كان سيتهم خصومه الإقليميين بالمسؤولية، فهذا يعني اعترافه الضمني بأنه يواجه خصماً متمكناً متراصّاً، قادراً على اختراق أعتى تحصيناته. وهذا يعني أيضاً تسليمه بكسر أسطورة التفوق الإقليمي التي يتبناها منذ فترة. أما اتهامه أطرافاً سورية داخلية بالمسؤولية، فهذا يعني فقدانه، ومن خلفه إيران، وما بينهما من بقايا النظام السوري، أي تفوق عسكري في الميدان السوري، اللهم باستثناء أبابيل روسيا التي تمطر القرى والمدن السورية برسائل الدم. وبالتالي، يصبح أي إنجاز ميداني يحققه في قريةٍ هنا ومدينةٍ هناك فارغاً من أي معنى، حين ينجح خصمك في النيل من رئيس أركانك وقائد حملتك العسكرية.
الملفت أنه، وبانتظار اتضاح الرؤية، وإعلان حزب الله تقييمه النهائي لما حصل، فالمؤكد أن كل خياراته في الرد مأزومة ومقيدة، فلا جبهة جنوبية قد تفتح، ولاجولانٌ سيلتهب، ولا ردٌّ إقليمي ممكن، وأي اختراقٍ نوعيٍ لتوزّع النفوذ على الميدان السوري بين الحزب (والنظام من خلفه) والمعارضة السورية، باختلاف تلاوينها، قابل للتحقيق، أقله في المدى المنظور. يبقى الاحتمال الوحيد للرد هو بمزيد من الانغماس في الدم السوري من جهة، واستنزاف مزيد من قدرات الحزب ورصيده في الداخل اللبناني.
إن كان يمكن لاغتيال بدر الدين أن يدفعنا إلى طرح إشكاليات جوهرية في السياسة، فيمكن لنا اختصارها باثنتين؛ بعد سلسلة الاستهدافات المباشرة للحزب و”المستشارين” الإيرانيين، وفي أعلى المستويات، من تحمي روسيا في سورية غير المياه الدافئة، وهل تختلف بذلك عن حماية الجيش الأميركي وزارة النفط العراقية إبّان دخولها بغداد. وهل لبقاء الحزب في الميدان السوري أي دافع سياسي، أم أن الدافع الوحيد الباقي ثأريٌ بحت، على مستوى الوعي الجماعي والفردي لجمهور المقاومة وحلفها.
ختاماً، ومع إعلان المحكمة الدولية الخاصة بلبنان التوقف عن جلساتها إلى حين التثبت من الحمض النووي الخاص ببدر الدين، يبقى رفيق الحريري الخاسر الأكبر والمستهدف الأول من هذا الاغتيال، إذ قد يطوي عملياً صفحة المحكمة الدولية، بغض النظر عن الموقف منها أو من ملاحقتها بدر الدين.
المصدر : العربي الجديد