روى رجل من دمشق حكاية حديث دار قبل أكثر من عشرين سنة بين شقيقه وصديق له هو شقيق الجنرال المنتحِر غازي كنعان، أحد أبرز القيادات الأمنية “العلوية” السابقة في النظام السوري المنحدر من بلدة القرداحة مسقط رأس عائلة الأسد.
حيث سأل كنعان الرجل الدمشقي في جلسة منادمة “كم تبلغ نسبة العلويين في سوريا؟” فأجابه الرجل بأنه لا يهتم لهذه الأمور ولم تحدثه نفسه يوما بهذه الأسئلة. أصر كنعان على صديقه أن يعطيه رقما ولو تقريبيا، فاستعصم الدمشقي بالصمت عن كلام يودي به إلى السجن المؤبد إذا كان صاحب حظ عظيم.
وبقي الأمر على هذا المنوال في الجلسة إلى أن فعلت الكؤوس فعلها في رأس الدمشقي، فقال لصديقه القرداحي: “أنتم تشكّلون نسبة خمسة بالمئة من السوريين في أحسن الأحوال”. فانتفض كنعان: “أرأيت أنك جاهل ولا تعرف شيئا”… طارت السَّكرة واستعرض الرجل في جزء من الثانية شريط حياته تعلوه حكمة، آمن بها والتزمها قبل وقوعه في الفخ “تسعة أعشار الحكمة الصمت”…
تابع كنعان حديثه: “إذا كنا نحن العلويين نمثل خمسة بالمئة، فأين تذهب بالمنافقين منكم الذين يداهنوننا وأنت منهم، ولا تقل نسبتهم عن ثمانين بالمئة من الشعب، فنصبح معا خمسة وثمانين بالمئة، أي أغلبية مطلقة…”. وافق الدمشقي على الاستنتاج وشعر بالأمان وشربا نَخب الأغلبية المطلقة.
اليوم وبعد تكسير سوريا تمهيدا لإعادة تلزيقها قِطعا مستقلة وفق أبرز السيناريوهات المطروحة، نستعيد حديث الدمشقي مع القرداحي في محاولة للإجابة على سؤال حول سُبل ملء الفراغ الذي سينشأ عن تشكيل دويلات لطوائف لا يكفي رعاياها لملئها، ولا تتناسب ديمغرافيتها مع جغرافيتها الجديدة، فكيف سيتم تأسيسها وإعمارها وإطلاق دورة الحياة فيها؟
العارفون بالعلوم العسكرية المتابعون لتطورات الموقف الميداني في بلاد الشام، يؤكدون أن الحرب في سوريا ما نشبت لينتصر طرفٌ على آخر نصرا سياديا، ويستدلّون على ذلك بتدخّل المجتمع الدولي أكثر من مرة بتنسيق مشترك بين الكبار، الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وبريطانيا وفرنسا ودون ممانعة من الصين، لإعادة التوازن على الأرض السورية كلما أوشك طرف على حسم الميدان لصالحه. وما فهمه الرئيس عمر حسن البشير باكرا عام 2011 بموافقته على انفصال جنوب السودان باستفتاء شعبي، ستفهمه أطراف عربية عدة لاحقا بأن الدماء التي تسيل في المنطقة ليست بالمنظار الاستعماري الغربي، إلا هذا الطلاء الأحمر الذي ستُرسم به حدود الدويلات الأقلّوية على أسس طائفية ومذهبية وعرقية وجهويّة.
ولأن بعض الأقليات لا تكفي على الصعيد البشري لتفترش دولة بمفردها، فالحل سيكون بتغيير ثقافي مبرمج لسكان من الأغلبية العربية السُنية، التي سيؤدي نقصان أعدادها بالقتل المستمر وبالهجرة البعيدة عن أرض الوطن، ثم بالتسرّب والولاء اللاحق إلى الدويلات الجديدة، سيؤدي إلى تحوّلها إلى مجموعة أقليات غير مجموعة على بقاع “غير مفيدة”، فتتحول دجاجاتُ الذهب إلى بيض مكسور حول ديك واحد في الجوار العربي، هو دولة الأقلية اليهودية “إسرائيل” التي ستشرب وحدها نخبَ تحول الأقلية إلى أغلبية مطلقة في المنطقة.
المصدر : عربي 21