تمر السياسة التركية، المحلية والإقليمية والأوروبية والدولية، في مرحلة لافتة للانتباه، أتى جزء منها مفاجئاً ليعكس تغييراً تكتيكياً في رؤية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان واستراتيجيته. فالرجل الذي لا يعترف بالخطأ اعتذر هذا الأسبوع من روسيا وشرب كأس السم وهو يطأطئ الرأس أمام العدو المنافس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي اشترط الاعتذار عن إسقاط تركيا الطائرة الروسية قبل بضعة أشهر.
والرجل الذي دعم «حماس» وتحدى القيادة الإسرائيلية وتبنى المزايدة على القيادة الفلسطينية، قرر هذا الأسبوع المصالحة مع إسرائيل واستعادة العلاقات الديبلوماسية المتبادلة زاعماً أن إسرائيل لبّت الشروط، فأتت خطوة أردوغان لتثير الحفيظة داخل تركيا وخارجها. سياسته نحو سورية تغيّرت كثيراً ولم يعد الرئيس التركي على رأس الحربة في محاربة نظيره السوري بشار الأسد، ولا في دعم المعارضة السورية المسلحة المعتدلة – فهو يبدو جاهزاً للتسلق هبوطاً من الموقعين. ثم إن حرب «داعش» على تركيا لم تأتِ من فراغ وإنما نتيجة تغيير جذري في تعامل تركيا مع المحاربين والمتطوعين الذين سبق أن فتحت أمامهم الأبواب عبر حدودها مع سورية قبل أن تتحوّل إلى شريك فعلي مع قوات «التحالف» الذي تقوده الولايات المتحدة وتفتح أمامها مطاراتها لشن الغارات على «داعش» في سورية والعراق. فالحرب التي يشنها «داعش» على المدن التركية حرب انتقامية ممّا يعتبره التنظيم «خيانة» له من القيادة التركية التي افترض أنها احتضنته.
لعلّه ازداد غضباً من انفتاح أنقرة على تل أبيب واعتذارها من موسكو عدوّه اللدود، إنما الأرجح أنه قام بإعداد العملية الإرهابية في مطار أتاتورك بإسطنبول رداً على المواقف التركية الجديدة الأقرب إلى التوافق الأميركي – الروسي المبطّن في الملف السوري والمعلن في الحرب على «داعش». واليوم، وأمام نتيجة الاستفتاء الشعبي في بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي، تبدو تركيا وروسيا مستفيدتين من الوهن، وربما التفتت، الذي سيصيب أوروبا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي – كلٌ منهما لأسبابه. إنما الواضح أن الرئيس التركي عاد إلى طاولة رسم السياسات التي كان اعتمدها وتباهى بها وتوعّد بعدم التراجع عنها، وهذا يتطلب مراقبة دقيقة لمواقفه المحلية، والإقليمية نحو دول الخليج وإيران ومصر، والدولية على نسق استحقاقات ترميم العلاقات مع روسيا وإسرائيل، كما على نسق انعكاسات العلاقات الأميركية – التركية على المعارضة السورية و «الهيئة العليا للمفاوضات» وتلك التي يدعمها التحالف الدولي «قوات سورية الديموقراطية» التي تضم قوات عربية وكردية.
الصفقة التي أبرمها أردوغان مع كل من «حماس» وإسرائيل أتت صفعة لقيادة السلطة الفلسطينية المتمثلة بالرئيس محمود عباس وصعقةً لمصر ورئيسها عبدالفتاح السيسي من بابي الوجود التركي المباشر في غزة على الحدود مع مصر، والتوطيد لجماعة «الإخوان المسلمين» في غزة ومصر على السواء.
ما أنجزه الرئيس التركي هو، عملياً، القضاء على مفاوضات وحدة صف الفلسطينيين وخرق الوحدة الوطنية الفلسطينية. فهو قام بتأكيد شخصية «حماس» في الساحة الفلسطينية على حساب السلطة الفلسطينية وقيادتها. وهندس هدنة بين إسرائيل و «حماس» وتفاهماً بين الأطراف الثلاثة على أن هذه هدنة دائمة، وأن رفع الحصار سيؤدي إلى تطبيع الحياة داخل غزة، وأن تركيا ستكون داخل غزة عبر مواد البناء والمستشفيات كمدخل لتدخلها الدائم في الشأن الفلسطيني.
هذا مكسب كبير لأردوغان، إذ إنه يكرّس دوره في غزة، ودعمه لـ «حماس»، وتفاهمه مع إسرائيل وإنماءه لجماعة «الإخوان المسلمين»، وتحدّيه لمصر السيسي، وتحطيمه لمحمود عباس والسلطة الفلسطينية – فليس في الأمر تغيير وإنما هناك تشديد على توجهات أردوغان الأساسية ضد السلطة الفلسطينية ومع «حماس». ليس في الأمر ذلك المقدار من الغموض الذي يستحق التفكير العميق. فرجب طيب أردوغان يتلاقى مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في الرغبة المشتركة في تدمير السلطة الفلسطينية والوحدة الفلسطينية، و «حماس» جاهزة كأداة لتحقيق الرغبة لمصلحتها فهي الضامن للرؤية المشتركة التركية – الإسرائيلية.
مصر لن ترتاح لهذا الاختراق الكبير الذي حققته تركيا وهي ستعتبر الوجود التركي في غزة موجهاً ضد مصر. ماذا ستفعل القيادة والديبلوماسية المصرية؟ بدأت تتحرك نحو السلطة الفلسطينية وكذلك نحو إسرائيل بطروحات لم تتضح معالمها بعد وما زالت تبدو مشتتة. فالمسألة بالغة الأهمية للقاهرة ببعدها الفلسطيني وبعد «الإخوان المسلمين» والأرجح أنها تتهيأ للرد، بصورة أو بأخرى على أنقرة.
أنقرة تحركت هذا الأسبوع نحو موسكو التي تعتبر القاهرة مهمّة استراتيجياً في علاقاتها مع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ما يجمع موسكو والقاهرة في مرتبة عالية من الاعتبارات هو معارضتهما القاطعة لصعود الإسلاميين إلى السلطة. أنقرة تتبنى عكس هذه المواقف لأن أردوغان هو مهندس صعود الإسلاميين إلى السلطة وصاحب فكرة تحويل تركيا إلى النموذج الذي يعتبره الغرب الإسلام المعتدل.
قد لا تتبنى القيادة الروسية مواقف عدائية من القيادة التركية بسبب تحديها كلاً من القيادة المصرية والفلسطينية لمصلحة «الإخوان المسلمين» و «حماس»، لكنها ستبقي أنظارها مركّزة على العلاقة المصرية – التركية. فبالنسبة إلى روسيا، مصر صديق استراتيجي مهم لها فيما تعتبر تركيا منافساً استراتيجياً، وهي خصم أكثر منها صديقاً.
القيادة الروسية تدرك أن اعتذار أردوغان أتى اضطراراً وليس تطوعاً. فلقد وجد الرئيس التركي نفسه في ورطة في سورية وقرر أنه يحتاج إلى روسيا للخروج منها. فلاديمير بوتين استفاد من التحوّل في المواقف التركية، ليس فقط لأنه تمتّع بتلقي الاعتذار من أردوغان، بل لأنه كسب أردوغان إلى جانبه في سورية.
ففي سورية يخوض بوتين معركة مصيرية وهو عازم على ألا ينفّذ أحلام الذين رأوا في مغامراته مستنقعاً جاهزاً له للتزحلق فيه. يدرك أنه لم ينجُ تماماً وأنه ما زال معرّضاً للوقوع في المستنقع، لذلك يرى بوتين فائدة كبرى في إعادة أردوغان النظر في سياساته السورية حيث تحوّل إلى شبه شريك الأمر الواقع للولايات المتحدة ولروسيا في الحرب على «داعش»، لا سيما بعدما اتخذ التنظيم الإرهابي قرار استهداف تركيا وتحطيم أمنها واقتصادها انتقاماً من شراكة أردوغان الجديدة.
بوتين يدرك أيضاً أن «داعش» لا بد أنّه يخطط ضده وضد روسيا كما خطط ونفذ ضد تركيا وأردوغان. إنها المحطة «المنطقية» الآتية لقطار «داعش» الإرهابي، لأن روسيا شريك عسكري للنظام في دمشق وهي تشن غاراتها ضد التنظيم ولا تخفي عزمها على تدميره. فلقد طاولت عمليات «داعش» عواصم أوروبية ومدناً أميركية ومواقع تركية عدة، ولربما يتهيّأ لأكبر عملياته ضد روسيا. وعليه، إن القيادة الروسية مستعدة لتقبّل اعتذار القيادة التركية وفتح صفحة جديدة – مع أنها لن تكون سهلة – لأنها أيضاً في حاجة إلى الشريك التركي في الحرب على «داعش».
العنصر الآخر في صفحة التفاهمات المفتوحة بين أعضاء «التحالف الدولي» بدءاً بالولايات المتحدة وأوروبا، مروراً بروسيا ومعها الحليف الإيراني في الحرب السورية، وصولاً إلى تركيا وأصدقائها من الدول الخليجية هو ما يتعلق بمَن هي المعارضة السورية المسلحة القادرة أن تكون ذات فاعلية على الأرض، وما هي التنظيمات التي تحارب في سورية التي تجب الآن إضافتها إلى قائمة التنظيمات الإرهابية. بين التنظيمات التي يعتبرها «التحالف» وروسيا معاً فاعلة عسكرياً في الميدان «قوات سورية الديموقراطية» التي تضم مقاتلين عرباً وأكراداً. فإذا باتت تركيا في صفوف الداعمين لهذا التنظيم، لأنه يقوم بالمهمة ضد «داعش» ميدانياً ويلقى تغطية جوية من طائرات «التحالف» التي تنطلق من مطاراتها، يطرح السؤال نفسه عما إذا كانت التفاهمات أو الصفقات تشمل عنصر الأكراد، أقله أولئك الذين يحاربون في سورية.
القاسم المشترك بين تركيا وإيران هو مشكلتهما المشتركة المعنية بالعنصر الكردي الذي يعتبرانه يهدد الأمن القومي. فكلاهما عازم على التصدي للأمن الكردي على حساب الأمن التركي أو الأمن الإيراني.
لأردوغان علاقة مع إيران تتقاطع مع علاقاته الجيدة مع دول في الخليج أبرزها السعودية وقطر. فهو يرى أن تهدئة إيران تتقاطع مع طمأنة الدول الخليجية. وهو يعتقد أنه قادر على اللعب على أوتار العلاقات المعقدة، الإقليمية والدولية، ليضمن مواقعه السياسية الداخلية.
علاقاته مع الاتحاد الأوروبي تتداخل مع حساباته المحلية وهو قد يرى في انسحاب بريطانيا من الاتحاد فرصتين متوازيتين هما: احتمال ترحيب الاتحاد بتركيا في ضوء رغبته بتوطيد قاعدته الواسعة، وهذا مفيد لأردوغان وتركيا. أما احتمال المزيد من الانسحابات من الاتحاد للدول الـ27 الباقية فيه حتى الآن وإضعافه بل وانهياره، فهذا أيضاً لن يزعج تركيا لأن الاتحاد رفض عضويتها على رغم أنها عضو في الحلف العسكري لشمال الأطلسي.
إذا حدثت معجزة الشراكة الجدية بين روسيا وتركيا، كلتاهما تستفيد كثيراً من أوروبا الممزقة وأوروبا الضعيفة. أما الآن، فمن المبكر جداً الاستنتاج أن فلاديمير بوتين باقٍ في صومعة قوته لأن الانتصار ما زال بعيداً في سورية، ولأن المستنقع ما زال يتربص به. ومن المبكر أيضاً الاستنتاج أن تكتيكات أردوغان الجديدة ستدرّ عليه المكافآت الدائمة، لا سيما أنه في عين العاصفة الآتية من سورية.
المصدر : الحياة