منذ اعتلى بن علي يلدريم سدة رئاسة الوزراء في تركيا ، أصبحت السياسة الخارجية مختلفة وربما الداخلية أيضاً ، وإن كان كل المراقبين على يقين بأن تحركات يلدريم بكاملها تقريباً بتوجيه من رجب طيب أردوغان المؤثر الحقيقي في كل قرار مصيري تنتهجه تركيا اليوم .
مبدأ “صفر مشاكل” جاء به البرفسور أحمد داوود أوغلو في كتابه العمق الاستراتيجي ووضع رؤيته لتركيا العدالة والتنمية وهو ما فعله الأتراك فعلياً في مسيرتهم قبيل رياح الربيع العربي وانفتاحهم عليه ودعمه ، ما جعل الأتراك في مهب الصراعات الدولية ، خصوصاً بين القطبين الأمريكي والروسي والرافضين أصلاً لأي تغيير شعبي بعيد عن رؤاهم الاستراتيجية . جعل مبدأ صفر مشاكل تركيا ذات أثر غير مسبوق في تاريخ الدولة الحديثة التركية ، فجعلها بين الدول الإقليمية المؤثرة سياسياً واقتصادياً ، يضاف إلى ذلك الانفتاح التركي على العرب في الاقتصاد والسوق والسياحة ، فمما أذكره في شوارع دمشق مطلع 2008 لوائح إعلانية كُتب عليها ” تركيا جنة الأرض ” إضافة لغزو البضائع والمنتجات التركية للسوق السورية بشكل كبير وملفت وخانق على التجار والصناعيين السوريين .
كان الربيع العربي انفراجة لتركيا في بدايته ، فهي من الدول القليلة جداً التي وقفت إلى جانبه ودعمت شبابه في رياح تغييرهم ، وهو ما يدعم مشروعها بكل الأحوال ، وكان في مواجهتها إقليمياً إيران الجارة والحليفة والعدوة في نفس الوقت والتي وقفت بوجه الربيع العربي وتمدده إلا في البحرين ودول الخليج . بعد ذلك صار الربيع العربي عبئاً ثقيلاً على تركيا وخصوصاً سوريا وإن كانت فرصة جيدة من نواحي أخرى لفتح ملفات دخول الاتحاد الأوربي و رفع الفيزا عن الأتراك وملفات اقتصادية وسياسية .
بعد التصريحات النارية بين روسيا وتركيا بُعيد إسقاط الطائرة الروسية ، كان لابد من التضحية بمن جرت المشكلة في عهده ، فلا يمكن أن تكون تصريحاتك السياسية ذات سقف مرتفع ثم تخفض منها فجأة ، وهذا ما حصل مع صاحب مبدأ ” صفر مشاكل ” لتكون المشاكل في عهده وهو أحد أبرز سياسي تركياً تنفيذياً وأكاديمياً ، فتمت التضحية بالخوجا أحمد داوود أوغلو وإن لم يكن التصالح مع روسيا وحده السبب في استقالته أو رجوعه للصفوف الخلفية ، ولكنه ضمن الخطة الجديدة للسياسة الخارجية التركية وترتيب كل الأجواء المناسبة لدستور جديد يكون الحكم فيه رئاسياً ، وملفات الإرهاب وأوروبا وسوريا واللاجئين السوريين وقضية الأكراد .
وفعلاً جاء بن علي يلدريم وبدأت معه تطبيق السياسة الجديدة ، والعودة إلى صفر مشاكل من حيث التسمية ، ولكن ربما قد نراها نحن صفر ثوابت ، وإن كانت السياسة ليس لها مبدأ أخلاقي ملزم عادةً ، فالمصلحة تفوق أي اعتبار ، وبذلك قال الرئيس البوسني علي عزت بيجوفيتش ” عندما يفقد العالَم القدرة على ممارسة سياسة عظيمة ، تبدأ التفاهات الدبلوماسية “. ربما من الصعب علينا كطلاب في العلوم السياسية أن نقدر تماماً ما يحصل في الدوائر المغلقة ” ولكن سأرجع إلى بعض التصريحات ومنها قد نصل لنتيجة ما ربما ..
بعد التطبيع مع إسرائيل وروسيا في يوم واحد ربما لتخفيف صدى التطبيع مع إسرائيل على الشارع التركي المحب جداً لفلسطين وللشعب الفلسطيني ، ذهب الرئيس أردوغان إلى ولاية كلس وتكلم هناك بكلمة قال فيها هناك انفراجة قريبة للوضع في سورية ، تصالحنا مع إسرائيل وروسيا من أجل إخواننا السوريين ، لا أدري ولا أحد يدري ماهي الصفقة التي كنا فيها هذه المرة ؟! وإن كنت لا أنظر للسوري على أنّه مركز الكون وعلى العالم أن ينصفه . الأجدر بنا أن نثق دوماً بأنّ العالم لن يكون منصفاً وإن حصل ذلك فهو بمحض الصدفة ! .
في نفس الكلمة قال أردوغان أيضاً ” سنمنح الجنسية التركية لإخواننا السوريين ” دون أي توضيح يذكر منه وبذلك فتح الرئيس المحبوب سورياً بشكل كبير وغير عادي الباب واسعاً أمام المعارضة التركية لتداول هاشتاغ على مواقع التواصل الاجتماعي وصل للراند العالمي على موقع تويتر ” لا أريد سوريين في وطني ” ، وفي المقابل رد عليه جزء جيد من الشعب التركي هل فقد الأتراك إنسانيتهم ؟ .
أصبح الأمر مختلفاً ، الرئيس التركي لا يمشي في الشارع ولا يعرف بما يحصل معنا ومع الأتراك ، فليس كل الأتراك مرحبين بالسوريين ، وليس كلهم بالمقابل ضد وجودنا بينهم ، ليس كل السوريين بنفس السوية الثقافية والأخلاقية والتعليمية وبالمقابل ليس الأتراك كذلك ، المختلف فقط أننا ضيوف ويجب أن تكون تصرفاتنا أكثر لباقةً وحذراً ، فيما قد نصبح أبناء هذه البلد قانونياً بحسب تصريحات الرئيس .
المستغرب في الأمر أن كل يوم هناك تصريح أو اثنان من المسؤولين الأتراك عن الجنسية التركية وضرورة إعطائها للسوريين ، لتنتشر في الصحف التركية حرب إعلامية بين المقربة من الحكومة والتي تمتلكها المعارضة بين موافق و مستنكر لموضوع الجنسية .
الذي جعلني أمّرُ على أمر الجنسية التركية هو تصريحات رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم الغريبة والمفاجئة والتي قد تكون الصادمة جاء في أولها ” أن بلاده تسعى لتحسين علاقاتها مع جميع البلدان ، بما في ذلك العراق وسوريا ومصر”.
وثانيها اليوم في قوله ” نعتزم توسيع صداقاتنا في الداخل والخارج، ولقد بدأنا في فعل ذلك خارجياً، حيث أعدنا علاقاتنا مع إسرائيل وروسيا إلى طبيعتها، ومتأكد من عودتها مع سوريا أيضاً “.
لا أدري مع من سيعيد يلدريم علاقاته في سوريا ، هل مع نظام الأسد أم مع نظام جديد تم الاتفاق ما بين روسيا وأمريكا عليه هو من مخلفات الأسد ونظامه بتشارك مع المعارضة السياسية السورية وبعض الفصائل ! خصوصاً بعد الأنباء الأخيرة عن وجود علي حبيب وزير دفاع نظام الأسد الأسبق في أنقرة مع عدد من العسكريين وذلك لتشكيل حكومة انتقالية في سوريا !! .
إن كان ثمن الجنسية التركية هو تعويم نظام الأسد من جديد وعدم قيام دولة كردية في الشمال فهو انتقال من المبدأ الفضفاض “صفر مشاكل” إلى المبدأ الواقعي “صفر ثوابت” الذي نراه ، وهنا نتكلم من الناحية السياسية ورفع سقف التصريحات بشكل دائم من أيام لن نسمح بحماة ثانية إلى لن نسمح بقيام دولة كردية على حدودنا الجنوبية .
أخيراً تبقى الدول الكبرى عديمةً أية ثوابت أو مبادئ لأنها صاحبة اليد الطولة في بقاء الأسد وحلفاءه من الأحزاب الكردية و داعش ؛ حتى اليوم ، في حين تصطف الدول الإقليمية والناشئة مرغمة لما فُرض .
خاص لوطن اف ام