وعد أردوغان، في أحد خطاباته التي تلت المحاولة الانقلابية الفاشلة، ببناء دار أوبرا كبيرة محل مركز أتاتورك الثقافي (ATM) الذي يتصدر ساحة تقسيم في إسطنبول، كما استعاد مشروعه القديم في بناء الثكنة الأثرية على أرض حديقة «غزي» الملاصقة للساحة، بعدما اضطرت الحكومة لإلغائه تحت ضغط الشارع الذي تمرد ضد قطع أشجارها، عام 2013، فيما سمي بانتفاضة «غزي». والمشروع الثالث الذي وعد أردوغان بتنفيذه، هو بناء «جامع سلاطين» (جامع سلطاني) في الساحة نفسها.
يطلق هذا التصنيف على تلك الجوامع التي أمر ببنائها سلاطين آل عثمان تخليداً لنصر عسكري أو فتح أحد البلدان، وإن كان شرط النصر أو الفتح قد أهمل، بمرور الزمن واسترخاء الإمبراطورية، وأصبح السلاطين يأمرون ببناء جوامع فخمة بمناسبات شخصية كوفاة الأم أو غيرها من الشؤون السلالية.
وأطلق أردوغان اسم «حرب الاستقلال الجديدة» على الحملة الأمنية الشاملة والاستئصالية بحق جماعة «الخدمة»، أو «منظمة فتح الله غولن الإرهابية» كما تسميها السلطة، وتعتبرها المسؤولة عن المحاولة الانقلابية الدموية الفاشلة التي جرت ليلة 15 تموز/يوليو. كما أعلنت الحكومة رسمياً عن عيد وطني جديد باسم «عيد شهداء الديمقراطية» تكريساً للنصر التاريخي الذي حققه الشعب على الزمرة الانقلابية. وغطى علم تركيا الأحمر كامل واجهة مبنى مركز أتاتورك الثقافي في ساحة تقسيم، وعليه عبارة: الحاكمية للشعب!
هذه وقائع مشبعة بدلالات تسعى جميعاً إلى بناء سردية السلطة لما جرى في تلك الليلة التركية الطويلة التي انتهت النهاية السعيدة بـ»انتصار الناس العزّل على الدبابات» كما لخصته مشاهد تليفزيونية كثيرة فوق جسر البوسفور.
الجامع السلطاني الذي وعد الرئيس، المنتصر في حرب الاستقلال الثانية، ببنائه في أشهر ساحات تركيا، ربما يواجه، مكانياً، دار الأوبرا التي من المفترض أن تقوم على أنقاض مركز أتاتورك الثقافي، إذا افترضنا أن الجامع سيقام على جزء من أرض حديقة غزي. وستعطل المدارس والدوائر الرسمية والمنشآت الخاصة في الخامس عشر من شهر تموز من كل عام احتفالاً بانتصار «حاكمية الشعب» (على أي حاكمية؟).
ثمة شيء غير مفهوم في قصة الانقلاب العسكري الفاشل الرائجة: فالمعروف عن المؤسسة العسكرية التركية أنها حامية علمانية الدولة أو قلعتها الأخيرة. وقبل سنوات قليلة كان أنصار حزب الشعب الجمهوري، ومجموعات يسارية ـ علمانية أخرى، ينزلون إلى الساحات بالألوف، ويطالبون الجيش بالتدخل لحماية العلمانية من الحكومة «الإسلامية». ولم يستجب الجيش إلا مرةً واحدة على استحياء، وذلك حين أصدرت قيادة الأركان إنذاراً على موقعها على شبكة الانترنت، بمناسبة ترشيح عبد غل إلى منصب رئاسة الجمهورية. وقتها وقف رئيس الوزراء أردوغان بشجاعة في مواجهة الإنذار وأفشله بصلابة تمسكه بترشيح غل.
كيف تحولت المؤسسة العسكرية من قلعة للدفاع عن علمانية الدولة إلى بؤرة إسلامية تابعة لفتح الله غولن؟ نحن نتحدث عن 123 ضابطا برتب جنرالات، وليس عن حفنة من الضباط الصغار. كيف حدث و»تسلل» كل هؤلاء «الغولنيون» إلى داخل القلعة الحصينة التي لا يدخلها أحد إلا بعد فصفصة تاريخه الشخصي وصولاً إلى أدق التفاصيل العائلية؟
الواقع أن حرب استئصال سابقة جرت داخل المؤسسة العسكرية، منذ العام 2008، طالت عدداً من كبار الضباط المخلصين لمبادئ أتاتورك، باتهامات تتعلق بالتخطيط لمحاولات انقلابية، فيما عرف في الإعلام بأسماء كـ»ضوء القمر» و «الفتاة الشقراء» و»أرغنكون» و»المطرقة» وغيرها. وكانت الآلية المتبعة في عمليات التطهير هي تسريب وثائق إلى بعض الصحف تثبت وجود خطة انقلابية، تهيئ الرأي العام لعمليات اعتقال واسعة تطال عسكريين ومدنيين. ولعبت جماعة «الخدمة» التي كانت متحالفة، حينذاك، مع العدالة والتنمية، الدور الرئيسي في تسريب الوثائق المذكورة. وكانت الحلقة الأخيرة في الخطة تتمثل في تعيين ضباط موالين لفتح الله غولن محل الضباط الذين تمت تصفيتهم. لا أحد يعرف حجم الولاء للخوجا الذي كان يطمح أن يكون «خميني تركيا» العائد من منفاه الأمريكي لاستلام السلطة، على ما يشاع بحقه، في جسم المؤسسة العسكرية. شبَّه الخبير العسكري متين غورجان عملية التطهير الجارية، بعمل جراحي لاستئصال ورم خبيث، محذراً من احتمال موت المريض بنتيجة أي حركة خاطئة من حامل المبضع.
السؤال الآخر المحيّر هو: كيف ظلت شبكة الموالين للداعية غولن، في المؤسسة العسكرية، بقوة كافية للقيام بانقلاب عسكري بهذا الحجم، بعد حرب تصفية للجماعة بدأتها السلطة منذ ثلاث سنوات، أي منذ كشفت تسريبات صوتية عن فساد حكومي طال أربعة وزراء ونجل الرئيس أردوغان بالذات؟ نتذكر العبارة الشهيرة التي أطلقها أردوغان في ذلك الوقت: «سوف ننزل إلى جحورهم!». وذلك ما حدث فعلاً. فقد تم تطهير المؤسسة القضائية من كل شخص مشكوك بولائه لغولن، وتعيين قضاة موالين للحكم محلهم، إلى درجة قيل فيها إن السلطة القضائية فقدت استقلاليتها عن السلطة التنفيذية بصورة تامة. وحدث الأمر نفسه في جهازي الشرطة والاستخبارات، لتمتد حرب الإلغاء تلك، بعد ذلك، إلى الإعلام المستقل والمصارف.
نحن أمام أحد احتمالين: فإما أن يكون حجم الشبكة الموالية لغولن، في الجيش وفي الجهاز البيروقراطي للدولة، أكبر من حجم أي حزب شرعي، أو أن الحكومة تتعمد تضخيم قوة «العدو» لسحق بقاياه. فنحن نتحدث عن اعتقالات طالت 13000 شخص، وعزل 45000 شخص من وظائفهم في مؤسسات الدولة، وطرد 2750 قاضياً، و123 من كبار الضباط من مرتبات الجنرالات، وهم يشكلون نسبة الثلث ممن يحملون تلك الرتب. أضف إلى ذلك إغلاق عدد كبير من المدارس والجامعات، وطرد مئات الأكاديميين.
تشكل حملة الاستئصال الجارية، منذ أسبوع، أكبر عملية تطهير يشهدها جهاز الدولة التركي في تاريخه. وهي، بهذا المعنى، تأسيس لدولة جديدة حقاً. فلم يكن من باب المبالغة أن يطلق عليها أردوغان اسم «حرب الاستقلال الثانية» في إحالة إلى حرب الاستقلال التي خاضها القائد المؤسس مصطفى كمال أتاتورك ضد جيوش الحلفاء.
وبهذا المعنى يكون الانقلاب العسكري الفاشل قد منح أردوغان الفرصة التي بخلت عليه بها العملية السياسية، لتأسيس «تركيا الجديدة».
المصدر : القدس العربي