خرج مدير الاستخبارات الأميركية، جون برينان، ليبشّر العالم بأن سورية متجهة إلى التقسيم. كان واضحاً، إذ قال إنّ سورية على الأرجح لن تعود موحدةً، كما كانت مرة أخرى، وإنه غير متفائل بشأن مستقبلها. ليست هذه المرة الأولى التي يشير فيها مسؤول، أو سياسي، أميركي إلى تقسيم سورية، سواء بالتوقع أو بالتفضيل، غير أن الحديث، هذه المرّة، يأتي بلسان مدير الاستخبارات شخصياً.
وفي توقيتٍ شديد الحساسية بالنسبة لمستقبل الأزمة في سورية، خصوصاً لجهة طبيعة الحلول المقترحة لحل الأزمة، أو لجهة الوضع الميداني، ومآلاته المستقبلية. فالمفترض أن ثمة مساراً سياسياً لا يزال يتلمس طريقه بين مواقف متناقضة لأطراف الأزمة. ومن شأن الإشارة الأميركية لتقسيم سورية ليس فقط تثبيط الهمم وتعطيل ذلك المسار، لكن أيضاً ربما تغيّر حسابات الأطراف المنخرطة في المعارك على الأرض. وعندما يستبق مدير الاستخبارات الأميركية المسارين، السياسي والميداني، بخطابٍ كهذا، فهو بالتأكيد يدرك مدلوله وتداعياته. إن لم يكن يمهد به لمواقف أميركية أكثر انكشافاً واقتراباً من التقسيم الذي بشّر به.
ومن بين عناصر عديدة تحكم التطورات المتوقعة في الأزمة، خصوصاً على المستوى السياسي، أشار برينان، في حديثه عن مستقبل سورية، إلى أن وجود بشار سبب رئيس في تعثر حل الأزمة. ووجه رسالةً إلى موسكو، مفادها بأن تحقيق تقدّم مرهونٌ برحيل الأسد. وللمرة الثانية، ليست هذه المرة الأولى التي تعلن فيها واشنطن صراحةً اختلافها مع موسكو بشأن سورية. وفي كل مرة، يتضح أن الاختلاف ليس عميقاً، ولا يصل إلى حد الصراع أو المواجهة، لا العسكرية ولا حتى السياسية. لذا، لا ينبغي أخذ كلمات برينان، فيما يتعلق برحيل الأسد، على محمل الجد.
فقد تكرّر المعنى نفسه، مرات كثيرة بألسنة كبار المسؤولين الأميركيين طوال خمس سنوات، ولم يحدث، في أي مرة، أن تغير موقف موسكو أو صدر من واشنطن ما يصدق تلك التصريحات أو ترجمتها في تفاعلها العملي مع الأزمة. فدائماً كان السلوك الفعلي يجسّد تراجعاً يناقض التصريحات والمواقف المعلنة. بل إن برينان هذه المرة ذهب إلى حد التناقض في التصريح نفسه، فقد رهن التقدم نحو حل الأزمة برحيل الأسد، وأنه فقد الشرعية والحق في قيادة الشعب السوري. وفي الوقت نفسه، استدرك بالقول إن الولايات المتحدة لا تطالب برحيل الأسد فوراً، وإنما بطريقةٍ تسمح بالإبقاء على مؤسسات الدولة السورية، لكي يمكن إعادة بناء البلاد.
وبينما تبادر موسكو إلى “ممارسة” و”فعل” ما تريده في سورية، تكتفي واشنطن بأن “تعلن” و”تؤكد” و”تطالب”. وهو ما يمثل، في واقع الحال، إقراراً ضمنياً وتنسيقاً مع روسيا أكثر منه تنافساً أو تعارضاً. والدليل أن الأفكار والمبادرات الموجهة لحل الأزمة سياسياً، منذ أكثر من عامين، روسيا مصدرها ومحرّكها الأساس. وتتم إدارتها بتناغم مع إيقاع تطور العمليات العسكرية، سواء التي تقوم بها موسكو مباشرةً، أو التي تضطلع بها قوات بشار المدعومة إيرانياً.
كان واضحاً أن تدخل موسكو عسكرياً نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي، إيذان ببداية التقسيم. وهو ما تأكد لاحقا من التركيز على مناطق معينة وإحكام السيطرة عليها. والتساهل في التعامل العسكري مع مناطق أخرى بعضها أكثر أهميةً وحيويةً من منظور السيطرة على الأراضي السورية، وإبقائها “موحدة”. وعندما كانت موسكو تقصف قوات المعارضة السورية، بزعم ضرب نقاط تمركز “داعش”، فإن واشنطن ساندت وبرّرت ولم تعترض. بل رفضت تسليح المعارضة بصواريخ مضادة للطائرات، لتدافع عن نفسها ضد القصف الروسي. ما يؤكد أن واشنطن من البداية تخدع السوريين، وتتلاعب بالمعارضة. وهي لا ترفع يدها في مواجهة موسكو، اعتراضاً أو تحذيراً، وإنما رضىً وترحيباً.
المصدر : العربي الجديد