تبدو قائمة المسموحات في التفاوض الأميركي مع روسيا، في شأن سورية، واسعة ومفتوحة الأفق، حيث مسموح كسب الأراضي بالقوة، ومسموح حصار المدن والمناطق، ولا سقف لعدد القتلى، وكل ذلك يندرج تحت إطار إغراء روسيا لجلبها إلى مفاوضات متوازنة.
لكن السؤال عن ماذا ستتازل روسيا في هذه الحالة وهي تعتبر كل سماح تحصل عليه من واشنطن بمثابة إنجاز وتطالب بتصريفه سياسياً في المفاوضات، حتى أنها باتت تتبع استراتيجية إخراج ما تحصل عليه بالتنازل الأميركي من دائرة المفاوضات وتعتبره لاغياً لعناصر تفاوضية أخرى، فلا يعود هناك معنى للحديث عن مصير بشار الأسد في ظل كسبه أراضٍ جديدة واستعادة سيطرته على مناطق سورية، إذ يصبح هذا الطلب غير واقعي، ثم لمن سيتنحى الأسد طالما يجري تدمير هياكل المعارضة وكامل أطرها؟
ثمّة سؤال يتبادر إلى الذهن: لماذا يحصل ذلك مع أميركا؟ هل نسيت واشنطن أبجديات التفاوض؟ أم فقدت الحساسية السياسية تجاه المتغيرات، أم لم تبقَ لديها القدرة على إدارة الأزمات في العالم؟ المشكلة أن الطرف الذي يقابلها لا يملك بالفعل ما يؤهله لمنافستها لا من حيث حجم المعلومات التي تحصل عليها واشنطن من مصادر معقّدة ومكلفة، ولا من حيث مراكز البحث والدراسات التي تملك خبرة عالية في التقدير والإستشراف، ولا من حيث الخبرة الاستراتيجية بحكم الانخراط الأوسع في قضايا كثيرة، ولا حتى من حيث القدرة على فرض السيطرة على مفاصل الجغرافيا العالمية بحكم الانتشار العسكري الأميركي القابض على جسم العالم عبر عدد كبير من الأساطيل الجوالة ومئات القواعد العسكرية الثابتة.
ما تتّبعه أميركا في سورية ليس استراتيجية متماسكة ومتكاملة، بقدر ما هو مجموع لهوامش استراتيجيات، واحدة تخص العراق، وأخرى إسرائيل، وثالثة ذات علاقة بنشاط حلف «الناتو» جنوب أوروبا، في تركيا تحديداً، وبالتالي فإن إجراءاتها في سورية تندرج، في الغالب، في إطار تلك الاستراتيجيات، ومن الواضح أن روسيا تعمل ضمن المساحة البعيدة عن المدى الأميركي، وعن مدار الأسلحة وأجهزة الرصد الأميركية، لذا لم يكن صعباً على روسيا تشكيل مجال عسكري أمني في باقي الجغرافية السورية وهي مطمئنة إلى أنها لن تصطدم مع واشنطن في أي لحظة، لا الآن ولا في المستقبل.
على ذلك فإن أميركا لا تجد نفسها مضطرة لإجراء مساومات جادة في الميدان السوري، وهي تتعامل مع الحالة برمتها من منطلق ربح زائد تحصّله من روسيا وإيران في مناطق ثانية، أو نوع من إسكاتهما عن المطالبة بمفاوضات متوازنة في قضايا أخرى، بمعنى تحويل الساحة السورية التي لا تنطوي على قيم استراتيجية مهمة للاستراتيجية الأميركية ولا تملك فيها واشنطن أصولاً عسكرية مهمّة، إلى عامل مساعد لكسب نقاط مهمة في التفاوض «الصراعي» مع روسيا وإيران من دون أن تخسر شيئاً في المقابل في ساحات تفاوضية مهمة، سواء في أوروبا الشرقية ذات الأهمية الخاصة في الميزان الاستراتيجي الأميركي نظراً لارتباطها بالأمن الأوروبي واستراتيجيات انتشار حلف «الناتو»، أو في قمع إيران من تطوير مخرجات الاتفاق النووي بحيث تستطيع صرفه سياسياً واقتصادياً.
لعلّ هذا ما يفسر سبب عدم اهتمام أميركا بتدعيم أوراقها التفاوضية في الميدان السوري بدرجة كبيرة، وغالباً فإن إجراءاتها تأخذ طابعاً شكلياً لا تدعمه إجراءات عسكرية وازنة وملموسة.
من هنا، يجد الروس أنفسهم غير معنيين كثيراً بتقديم تنازلات جوهرية ولا حتى التوافق على مبادئ أساسية لحل الأزمة في سورية، بل الواضح أنهم التقطوا حقيقة الاستراتيجية الأميركية من خلال محاولاتهم المتكررة فتح ملفات تفاوضية أخرى، في أوكرانيا وقضية الدرع الصاروخي، على خلفية انخراطهم في سورية، وإصرار أميركا على التفاوض فقط في الملف السوري، من دون الخروج عن مداره وهو ما يزيد غيظ الروس وتزمّتهم في سورية، بل إن روسيا ذهبت إلى حد محاولة صناعة فضاء إقليمي من خلال توسيع علاقات التعاون والتنسيق مع إسرائيل والأردن وتركيا، وإقامة غرف عمليات مشتركة مع العراق وإيران ونظام الأسد، وذلك للضغط أكثر على واشنطن ودفعها إلى تفكيك عقد العلاقات معها في الملفات الأخرى.
لا يدخل في حسابات الاستراتيجية الأميركية حجم الكارثة التي يعاني منها الشعب السوري، ولا التداعيات التي تجاوزت دائرة الاحتمالات وتحولت إلى وقائع من نمط اهتزاز الاستقرار الإقليمي وزيادة انتشار التطرف وتهديد أمن حلفاء أميركا في المنطقة وأوروبا، والأرجح أن السياسة الأميركية نامت عند حدود الرهانات الأولى في تقدير المكاسب المحتملة من الأزمة وحصرها بتقاتل السيئين وإشغال إيران واستنزاف روسيا وإحراجها، تلك الاستراتيجية الخائبة، فهي كما سمحت لـ «داعش» بالظهور والتمدد، شكلت البيئة المناسبة لتغوّل فلاديمير بوتين الذي بات يتدخل في توجيه الناخب الأميركي نحو مرشح معين، بعد أن جرب العبث بأمن أوروبا ونجح.
المصدر : الحياة