في مقاله «أسئلة لا تناقشها المعارضة السورية»، المنشور في «الحياة» (الثلثاء، 2/8/2016) يستعرض الكاتب والصديق ماجد كيالي جملة من «الأسئلة»، قرّر أنّ المعارضة السورية «لا تناقشها»، على نحو ما بدا من الصيغ القطعية التي استخدمها في عنوان المقال وغير قليلٍ من مضمونه. تنطلق الأسئلة من مقولة «إسقاط النظام» مروراً بالموقف من «التدخل الخارجي» وليس انتهاءً بتقييم أداء المعارضة في «إدارة أوضاعها، وفي إدارة الصراع ضد النظام»، وهل جرى التفكير في كل هذا وكيف.
ليس من المبالغ فيه القول إنّ كثيراً من تلك المسائل قد فات أوانه، بعد كل ما بلغته المعضلة السورية من تدويل أخرج مصير سورية من أيدي السوريين، لذا لن تتناول السطور التالية فحوى الأسئلة وأجوبتها المحتملة التي ساقها المقال، وإنما تذهب إلى نقض فرضيته القائلة بأن ما تضمنه من أسئلة لم تُناقش، بما ينطوي عليه ذلك من افتراض الجدّة والأسبقية في طرحها، لأنّ في الأمر تجاهلاً وظلماً لجهود سوريين كثر ممن انشغلوا مبكّراً بتلك الأسئلة، واجتهدوا للبحث فيها مطوّلاً، منطلقين من موقعهم المعارض للنظام والمنحاز للثورة في شكل صريح، وإن من موقع التفكير النقدي البعيد عن الضجيج التعبوي والخطاب الشعبوي والتبريري.
ولأنّه من غير الواضح ما الذي عناه الكاتب بـ «الجهات المقرّرة في الثورة، التي يفترض أن تدير الصراع بأفضل وأقوم ما يمكن»، والتي تقع عليها مسؤولية التصدي للإجابة عن التساؤلات التي عرضها كما قال، بدا أن المقال قد وقع في فخ التعميم في شأن موقف المعارضة السورية منها بالقول إنّ «قيادات المعارضة لم تتطرّق إليها، أو لم تتوقّف عندها».
خلافاً لما ذهب إليه المقال، لم تكن تلك المسائل خارج دائرة النقاش والتفكير السياسي السوري، أقلّه لدى بعض المعارضة. ومع الإقرار بالفشل في التوصل إلى معالجة مجدية لها، بيد أنه على امتداد السنوات الخمس العجاف التي مضت، كرّست سيرة المعارضة وراكمت، المرّة تلو المرّة، خلافاتها وانقساماتها على أرضية اختلاف مقارباتها، المعلن منها والمضمر، حيال تلك الإشكالات وسواها، ما يعني أنّ الافتراض الذي انطلق منه الكاتب يجانب الصواب، أو تنقصه الدقة في أقل تقدير، خلافاً لما يُتوقّع ممن له اطلاع ومعرفة كبيران في الشأن السوري كالسيد كيالي.
الخلافات الشخصية أو الأيديولوجية بين أقطاب المعارضة السورية، والتي تعود جذورها إلى ما قبل آذار (مارس) 2011 بسنوات، لا تفسّر وحدها الانقسام الحادّ في صفوفها بعد الثورة. ذلك أنّ خلافاتها تجذّرت بالضبط بسبب كيفية تفكير كل فريق وخياراته وطريقة استجابته لتحدّيات طرحتها أسئلة من التي افترض الأستاذ ماجد أنها لم يتم البحث والتفكير فيها في أوساط المعارضة.
لقد تبلور منذ السنة الأولى للثورة عنوانان رئيسيان للمعارضة: «هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي»، و «المجلس الوطني السوري» ثم لاحقاً «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة»، ضمّ كلّ منهما أطيافاً معارضة متعددة، إضافة إلى ما بينهما من تجمّعاتٍ وتشكيلات، ولم يسلم أيٌّ من كلِّ ما سبق من الانشقاقات والانقسامات والانسحابات، وكل هذا لم يكن فقط نتيجة مطابع شخصية بقدر ما هو قائم على أرضية ما تقدّم من تباين المواقف حيال الإشكالات المطروحة.
ليس هذا مجال تقييم أداء المعارضات وتشكيلاتها المختلفة، وليست الغاية الدفاع عن/ أو الهجوم على أي منها، لكن توضيح ما سلف والأمانة التاريخية أيضاً، يقتضيان التذكير بـ «اللاءات الثلاث» الشهيرة التي أطلقتها هيئة التنسيق منذ تأسيسها: «لا للتدخل العسكري الأجنبي، لا للتجييش الطائفي والمذهبي، ولا للعنف وعسكرة الثورة»، في الوقت الذي ذهب فيه فريق آخر إلى استجداء التدخل، وقدّم التغطية السياسية لجماعات تحمل مشاريع مذهبية طائفية، واصفاً إيّاها أنّها «جزء من الثورة»، ناهيك عن السعي المبكّر إلى العسكرة والرهان عليها أيّاً كانت هويّة حامل السلاح ومشروعه.
إذن، فإنّ مناقشة تلك الموضوعات (الخارج، الطائفية، العسكرة، تحالفات المعارضة…) واتّخاذ موقف منها يقع في صلب الخلاف المؤسّس لتشرذم المعارضات السورية على امتداد سنين الثورة. ليس هذا فحسب، بل إنّ النقاش حولها لم يتوقف في كتابات ونقاشات السوريين وغيرهم، في محاولة للإجابة عن هذه الإشكالات الكبرى.
من الأمثلة، سلسلة ندوات وورشات عمل عقدها مركز دراسات الجمهورية الديموقراطية (وكاتب هذه السطور أحد باحثي المركز) لمناقشة هكذا مواضيع وسواها، شارك فيها نشطاء وسياسيون ومثقفون معارضون منحازون للثورة ولهم باع طويل في معارضة النظام، وهي منشورة بالكامل ومتاحة لمن يرغب بالقراءة. أليس هؤلاء من «المعارضة» التي قرر المقال أنها «لا تناقش» تلك الأسئلة؟ أم أنّ هناك مجموعة ما من المعارضة أغفلت تلك المسائل أو تغافلت عنها، والكاتب يحصر صفة المعارضة فيها تحديداً، وتالياً يرى أنّ عدم نقاشها لما يعتقد أنها أسئلة لم يسبق نقاشها يعني أن «المعارضة لا تناقشها» مسقطاً صفة «المعارضة» عن سواها؟
إن لم يكن الأمر على ذلك النحو، كان الأجدى لو حُدّد بدقة من هو المقصود بتهمة تجاهل الأسئلة أو إهمالها لتجنّب التعميم المجحف، ولكي لا تُغفل جهود من سعى للتصدي لهكذا أسئلة، وإن لم يُوفّق إلى النتائج المطلوبة. أما إذا كان المعني بالمقال هم فقط «قيادات المعارضة»، فهل يختصر هؤلاء المعارضة للقول «أسئلة لا تناقشها المعارضة»، مع العلم أن عبدالعزيز الخيّر مثلاً، وهو من قادة المعارضة البارزين، تناول هذه الموضوعات مبكراً قبل أن تغيّبه مخابرات الأسد، كما في حوار مجلة «الآداب» معه «سورية في المخاض: حوار مع عبدالعزيز الخيّر. الآداب، شتاء 2012»، ومثله ساسة وكتّاب وقادة رأي معارضون خاضوا هذه المناقشات منذ العام الأول للثورة.
إنّ عدم التوصّل إلى أجوبة شافية لأسئلة كبرى وإشكالية بهذا الحجم لا يعني أن نقاشاً فيها لم يحصل، كما لا يطعن في جهد من اشتغل عليها ولا يقلل من أهميته، فهذا جزءٌ من تاريخ الأفكار والنقاشات التي رافقت سياق الثورة السورية وتحوّلاتها، ومعلومٌ أنّ التاريخ ليس محصوراً بسرد الوقائع والأحداث، وإنما هو تاريخ الأفكار أيضاً.
المصدر : الحياة