مقالات

د. مدى الفاتح – الوزن الحقيقي لتركيا

«أيها العرب، لا تعطوا تركيا حجماً أكبر من حجمها» هذا هو النداء الذي وجهه عمر قوقماز مستشار الرئيس أردوغان للشؤون العربية والقيادي بحزب العدالة والتنمية لأصدقائه من العرب، الذين تقودهم العاطفة.

كان ذلك خلال مقابلة تلفزيونية أذيعت قبل أشهر إبان المهرجان الكبير الذي نظمته الجالية العربية في تركيا تحت عنوان «شكراً تركيا»، وقد جاءت العبارة في إطار التعليق على بعض كلمات الضيوف الذين كان جلهم من المنتمين للتيارات الإسلامية، الذين وصف بعضهم أردوغان بأنه خليفة المسلمين، في حين وصف آخرون تركيا بالدولة القائدة والمثال الذي يجب أن يحتذى في مجال دعم العرب والمسلمين حول العالم وفي مبارزة الدول الغربية وأخذ سبق الريادة منها.

لا شك أنه كانت في تلك التوصيفات مبالغة تفتقر إلى الواقعية، فهنالك على الدوام فارق بين لغة التمنيات والفأل الحسن غير المحدود وظروف وتعقيدات الواقع المقيّدة بحسابات مادية وقراءات لا يمكن تجاوزها، بل إن التمادي في إلباس تركيا حلة أكبر منها يضر بها أكثر مما ينفعها، فهو يصوّرها في شكل خطر داهم متمدد يريد أن يتغوّل على محيطه القريب وأن يفرض أنموذجه على غيره، كما يصورها في حالة تحدٍ وخصام مع المنظومة الغربية الراسخة التي يصعب زحزحتها، على الأقل في المستقبل القريب، من قيادة العالم.

لقد ساهم هذا التضخيم الساذج الذي حذر منه قوقماز في خلق عداوات لا مبرر لها، كما ساهم في إشغال تركيا بمنافسات إقليمية ودولية وتحديات كانت في غنى عنها، وهو ما عرضها للكثير من المؤامرات التي كادت أن تودي بها والتي امتدت من جبهات القتال مع المجموعات الكردية إلى دعم تلك المجموعات من أجل تنفيذ عمليات نوعية في العمق التركي، وصولاً إلى رعاية انقلاب عسكري ينذر بالدموية ضد أردوغان وحزبه.

الأصدقاء حسنو النية لم يكونوا يدركون حقيقة أن أعداء تركيا يستخدمون ما يقولونه عن قوة تركيا ونواياها الإقليمية ورقة ضغط عليها، من أجل إعاقة مشاريعها ولجم أدوارها الخارجية بحيث تبقى منشغلة بالدفاع عن نفسها وبإظهار حسن نواياها. هذا يشبه إلى حد كبير ما يحدث في أوروبا حيث ينشر المتطرفون إحصاءات مغلوطة وتقارير غير موضوعية ولا علمية عن نسبة المسلمين هناك وأعدادهم، وأن دولة كذا سوف تصبح بعد عقد أو عقدين بغالبية مسلمة وهو ما سوف يتداوله المسلمون بفخر، غير واعين أن كل هذا هو مجرد فخ من أجل تبرير محاولات قمع نشاطاتهم ومظاهر دينهم، على اعتبار انها تمثل تهديداً للثقافة المحلية.

في عام 2009 أي قبل مواسم الربيع العربي صدر كتاب لجورج فريدمان بعنوان «المئة عام المقبلة» وفي هذا الكتاب يتوسع فريدمان، المشهور كمحلل استراتيجي وخبير سياسي، في الحديث عن تركيا المقبلة التي ستتربع على عرش العالم بعد عقود. الكتاب لم يكن مقنعاً في حديثه عن تركيا كندٍ مقبل للولايات المتحدة، وإذا علمنا أن كاتبه مقرب من الدوائر الاستخبارية بحكم ترؤسه لمؤسسة «ستراتفور» المهتمة بالبحث في مجال الشؤون الدولية، فإن بالإمكان الآن وبعد مرور هذه السنوات أن نقول إن تمرير هذه الرؤية كان مطلوباً ومقصوداً، فقد قلل فريدمان في هذا الكتاب من شأن المنافسين الآخرين كالصين وروسيا وحتى الاتحاد الأوروبي، في حين سلّط الضوء على تركيا المرشحة لابتلاع روسيا والتحكم في مضائقها وطرقها.

يلخّص فريدمان قوة العالم الإسلامي في كل من مصر وإيران وتركيا، ليستبعد أن تلعب الأولى أي أدوار كبرى خلال الفترة المقبلة وكذلك الثانية المنشغلة بعداء جيرانها، وهكذا يعود ليقول مرة أخرى إن الخطر لن يأتي إلا من تركيا.
لاحظ الشبه بين هذه الطرح وبعض الطروحات السياسية المعاصرة في العالم العربي، التي تعقد الأمل على تركيا لقيادة العالم الإسلامي باعتبارها الأكثر تأهيلاً وجاهزية.

لا يهدف هذا المقال للتقليل من القوة الاقتصادية أو العسكرية لتركيا، التي تمضي في طريقها لأن تكون أحد أهم الاقتصادات في العالم، رغم ما تتعرض له من محن ومضايقات ومكايدات. تركيا مرشحة فعلاً للعب أدوار إقليمية مهمة لما تمتلكه من عامل بشري أولاً ولسحر جغرافيتها الذي يكاد يجعلها تشرف على جميع مفاصل العالم. ثم إن لدى تركيا خطة بعيدة المدى لعام 2030 لا تهدف من خلالها لقيادة العالم كما يروّج بعض الأعداء والأصدقاء ولكن لأن تصبح رقماً لا يمكن تجاوزه في المجال الاقتصادي والسياسي، وهو طموح مشروع وغاية مشتركة بين كل الدول التي تضع لنفسها خططاً وأهدافاً مستقبلية. رغم ذلك فإنه يصعب علينا أن نرى في الواقع المنظور أي إمكانية لأن تبتلع تركيا روسيا، كما بشّر فريدمان، كما أنه من الصعب أن نستسيغ فرضيته المتعلقة بالنفوذ التركي الذي سيمتد حتى يصل إلى اليابان ليشكل تحالفاً جديداً قد يتوجه ضد المصالح الأمريكية.

«الكابوس» الذي يصوره فريدمان يتمثل في استعادة تركيا لأمجادها القديمة بحيث تعيد ضم الدول العربية التي ستتقوى بهذا التحالف الجديد ضد الهيمنة الأمريكية، وهنا ينصح الكاتب بلاده بما يتوجب عليها فعله حينها وهو أن تعود لإحياء مد القومية العربية من أجل فك الارتباط بالأتراك. مشهد الختام في رؤية فريدمان لمستقبل العالم هو حرب عالمية جديدة فيها حلف تركي ياباني مقابل الولايات المتحدة وعدد قليل من الذي سيبقون حتى ذلك الوقت من ضمن حلفائها.

الخلاصة التي يمكن أن يخرج بها من يقرأ مثل هذه الكتابات التي تتذرع بالموضوعية هو ضرورة تقليم أظافر تركيا قبل أن تطول أكثر، خاصة حين يأتي الترويج لهذه الطروحات من أكثر من طرف. أما علاج حالة الحماس غير المتزن لتركيا فيكمن في فهم حقيقة التحركات التركية التي تعبر عن بلد يبحث عن مصالحه وعن مصلحة مواطنيه بالدرجة الأولى، كما يكمن في التوقف عن وصف الجمهورية التركية بأنها «إسلامية» لما تحمله هذه الكلمة من إيحاءات في العالم المعاصر، خاصة أن القيادة التركية تحرص على عدم استخدامها وعلى إظهار إخلاصها للعلمانية ولمؤسس الجمهورية الأول كمال أتاتورك.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى