حسمت تركيّا أمرها وتجرأت لأول مرّة منذ بدء الأزمة السورية عام 2011 على تنفيذ قرار بالتدخّل العسكري المباشر ففتحت حدودها لعبور وحدات من قوّاتها الخاصة مدعومة بمقاتلات ودبابات ومدفعية في عمليّة سمّتها اسما معبّرا (درع الفرات) بل ووضعت هدفاً صريحاً وواضحاً لها وهو استهداف تنظيم «الدولة الإسلامية» وحزب «الاتحاد الديمقراطي» الكردي باعتبارهما تنظيمين إرهابيين.
وزير خارجية تركيّا مولود جاويش أوغلو اعتبر أن عملية تطهير بلدة جرابلس التي يسيطر عليها مقاتلو «الدولة الإسلامية» ستكون نقطة تحوّل في المعركة مع التنظيم، ولكنّ الحقيقة أن العملية تتجاوز هذا الأمر بكثير.
يكسر الدخول التركي إلى سوريا بوضوح الخطّ الأحمر الدوليّ الذي كان يمنع أنقرة من فرض منطقة آمنة قرب حدودها، وهو الخطّ الذي وضعه شركاؤها النافذون في حلف شمال الأطلسي، وبالأحرى إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما لأسباب عديدة متناقضة تنوس بين الحفاظ على شرعيّة النظام وبين خطط أخرى لخلق أمر واقع على صيغة «دويلة كرديّة» في سوريا.
تكشف التصريحات التركيّة، وكذلك تصريحات الدول المرتبطة بالأزمة السورية بشكل أو بآخر، بعضاً من الأسباب التي سمحت بهذه الخطوة التي كانت ممتنعة سابقاً، كما أنها تشير إلى المتغيّرات التي أدّت إليها.
أول هذه التغيّرات يتعلّق بالوضع التركيّ نفسه والذي تكشّف بعد الانقلاب العسكري الفاشل ضد الحكومة المنتخبة عن ديناميكيّة سياسية سمحت للحكومة، بدعم من أحزاب المعارضة، بإجراء تطهيرات واسعة في الجيش أدّت، وللمرة الأولى منذ تأسيس الجمهورية التركية، إلى إخضاع المؤسسة العسكرية للأوامر الصادرة عن الحكومة.
لقد كان قرار التدخّل موضع تجاذب وتوازنات معقّدة بين حكومة «العدالة والتنمية» ومؤسسة الجيش لا تتعلّق باستقلاليته النسبية فحسب، بل كذلك بعلاقات قياداته المميزة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي فإن امتناع التدخّل العسكري التركيّ في سوريا لم يكن قراراً أمريكيّاً فحسب بل كانت له آليّات مساندة من داخل الجيش التركي، وهو ما تغيّر عمليّاً مع تسريح ما يقارب نصف القيادات العليا للجيش والهزيمة الشعبية التي تعرّضت لها فكرة الانقلاب العسكري نفسها.
المتغيّر الثاني يتعلّق بتغيّر الوضعيّة التركيّة ـ الروسيّة التي وصلت إلى ذروة العداء مع إسقاط طائرة سوخوي واستهداف الروس لقوّات المعارضة السورية المقرّبة من الأتراك ثم شنهم حرباً اقتصاديّة ضد أنقرة أوجعت الطرفين المتشابكي المصالح في مجال حيويّ جغرافيّ واسع لا يقتصر على تركيا وروسيا فحسب، لكن الأمر انتهى إلى اضطرار الطرفين لحلول براغماتية اقتصادية وسياسية تعتبر معركة جرابلس بعض نتائجها.
المتغيّر الثالث يخصّ الإيرانيين الذين أحسّوا بدورهم باشتعال خاصرتهم الكرديّة الذي امتدّ إلى الأكراد الإيرانيين المتأثرين بنموذجي «الاتحاد الديمقراطي» في سوريا الذي يحظى بغطاء أمريكي وحزب العمال الكردستاني الذي يخوض حرباً ضد السلطات التركيّة، وكذلك بنموذج الأكراد العراقيين الذين تمدّد نفوذهم إلى مناطق جديدة.
تواقتت هذه المتغيّرات مع التقارب السياسي الذي أجراه الأتراك مع روسيا وإيران نتيجة إحساسهم المتزايد بالخطر من اقتراب إنشاء دولة كرديّة على حدودهم مع سوريا تتواصل مع قواعدها العسكرية في جبل قنديل في العراق ومع تنظيمات حزب العمال الكردستاني في تركيا (وتمتدّ بسهولة إلى إيران)، وكذلك مع اقتراب نهاية حكم أوباما المسؤول، عمليّا، عن كارثة امتداد تنظيم «الدولة الإسلامية» وعن وصول خيار دعم «الاتحاد الديمقراطي» في سوريا (المتناقض بشدّة مع مصالح «حليفته» تركيّا) إلى نهايات غير محمودة ترافقت مع غضب تركيّ متأجج انضافت إليها شكوك بدور أمريكي في الانقلاب العسكري الفاشل.
ترافق ما يجري مع زيارة نائب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن «الاعتذارية» لتركيّا بعد الأزمة الخطيرة بين البلدين يشير إلى انحناءة أمريكية أمام الغضب التركي، وكان تصريح بايدن أمس بأن على أكراد سوريا الانسحاب إلى شرق الفرات لضمان الدعم الأمريكي دليلاً على أن واشنطن قبلت أخيراً بدور تركيّ مباشر بتأمين الحدود وربما بفرض منطقة آمنة للسوريين طال أمد انتظارها، كما أنها تعني أيضاً أن «مهمة» واشنطن المناطة بحزب «الاتحاد الديمقراطي» (بمسميّاته المختلفة) قد وصلت إلى نهايتها الطبيعية!
الدرس الأهم الذي يمكن الاستفادة منه هو أن التزام حلفاء واشنطن بقراراتها لا يؤدي بالضرورة لرضاها عنهم (بدليل استمرار دعمها لخصم أنقرة اللدود)، وأن الطريقة الوحيدة لتغيير ذلك هو بالتمسك بمصالحك وفرض القرار الذي يناسبك، وهو، على ما يبدو، أمر ينطبق على حلفاء أمريكا كما على خصومها.
المصدر : القدس العربي