أثارت قضية ترحيل سكّان ومقاتلي المعارضة من مدينة داريّا القريبة من دمشق خضّة جديدة في وجدان السوريّين والمتعاطفين العرب مع نضالهم ضد النظام الحاكم.
وأججت مشاهد إخلاء المدينة من كامل من بقي من أهلها مشاعر سخط شعبيّ في الجنوب السوري فخرجت مظاهرات في مدن وبلدات عديدة من حوران احتجاجاً على ما اعتبره الناس تخاذلاً من فصائل المعارضة الموجودة هناك عن نصرة بلدة، صمد ساكنوها أكثر من أربع سنوات على حصار تجويع خانق كما تصدّت وحدها لحملات عسكرية هائلة استخدم فيها النظام البراميل المتفجرة وقنابل النابالم الحارقة والقصف المدفعي والجوّي.
أثارت التغريبة الحاليّة لأهل داريّا بعد قرابة 1400 يوم من الحصار في مساحة صغيرة نسبيّاً تحت الرقابة المسلطة لميليشيات النظام وحلفائه إحساساً فادحاً بالعار الإنسانيّ الكبير فأطفالها الذين خرجوا من تحت الحصار فوجئوا بوجود أشياء يعتبرها أطفال العالم حتى في أكثر الأماكن بؤسا أشياء بديهية كبعض الخضروات والبسكويت والشوكولاته، وقد صمد سكانها على كل أساليب القتل ومحاولة إخضاعهم وكسر إرادتهم رغم أنهم كانوا غير قادرين على توفير الخبز والدواء.
ومما يضيف لملحمة داريّا نكهة خاصة أن أهاليها كانوا مثالاً للاعتدال ورفع رايات السلمية والدعوة اللاعنفية وقد اشتهر منهم الناشط السياسي غياث مطر الذي كان ينظم المظاهرات السلمية التي تقابل الجيش السوري بالماء والقرنفل، والذي قبض عليه وأعاده رجال الاستخبارات قتيلا مكسّر الأعضاء وسلموا حنجرته المقطوعة إلى أمه، وقد حضر عزاءه، وقتها (للتذكير) سفراء الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا واليابان وألمانيا والدنمارك، وبعد مغادرة المذكورين المكان استباحت قوات الأمن مجلس العزاء وأطلقت العيارات النارية والقنابل المسيلة للدموع كما قتلت فتى في السابعة عشرة من عمره خلال تشييع جثمانه، وكل هذا جرى في السنة الأولى من الثورة السورية وكان أنموذجاً لآلة قتل النظام التي تعتبر أنها أنهت قصة المدينة بفصل عمرانها وأرضها عن بشرها الذين سكنوها منذ آلاف السنين.
يدخل تهجير سكّان مدينة داريّا ضمن ما يمكن اعتباره مخططا أدواته الإبادة البشرية وتغيير الديمغرافيا السكّانية بالتجويع والقتل والتهجير لمناطق بعينها في سوريا، وهو مخطط عملت فيه سكّين القتل والتجويع والتهجير ونقل سكّان من طائفة بعينها إلى الأماكن المفرغة من سكّانها وأدّت حتى الآن إلى فرض وقائع اجتماعية جديدة في القصير والقلمون والزبداني ومضايا وصولاً إلى ما يجري حاليّا في مدينة الوعر في حمص، وهو يقوم على مبدأ «سوريا المفيدة»، من ناحية، كما أنّه يمكن استدخاله ضمن خطّة أطرافها النظام السوري وإيران والميليشيات الشيعية اللبنانية والعراقية، وهو يستكمل تغيير الطبيعة الطائفية لمناطق قريبة من لبنان، وكذلك ضمن حزام العاصمة السورية دمشق، بحيث تخدم هدفين: الأول تحشيد مكوّنات اجتماعية من طوائف بعينها لحماية النظام في دمشق، والثاني تدعيم الوضع العسكري والسياسي لـ»حزب الله» في لبنان.
بما يشبه اتفاق تقاسم دوليّ بين البلدان المؤثرة في المعادلات العسكرية السورية تؤدي هذه الخطط الجاري تنفيذها إلى إعطاء طابع خارجيّ هائل للصراع في سوريا، بدءاً من النظام الذي كان يتصرّف منذ ما قبل الثورة كما لو كان قوّة احتلال خارجيّة ضد «الشعوب الأصليّة» التي كانت موجودة في سوريا قبل وجوده، ووُضع بعد ثبوت عطالته رغم وحشيّته الهائلة ضد «شعبه» في غرفة إنعاش تمدّه بفائض قوّة روسيا وإيران، كما أنه يتلقّى الدعم المباشر شرقاً وغرباً من حدود العراق ولبنان، فيما تمنع غرفة العمليّات الموجودة في الأردن (المدعوّة موك) أي حركة عسكرية ضدّه من الجبهة الجنوبية، ومن الشمال يقوم حزب العمال الكردستاني بنقل معركته مع السلطات التركية، كما يضاف اندياح تنظيم «الدولة الإسلامية» من العراق وانتشاره في كل بقاع سوريا، ليجعل بلاد الشام مجال عمل آلة قتل وتهجير لا مثيل لها تملأ أركان البلد (والعالم) بالضحايا والنازحين واللاجئين.
ترافق نزوح أهالي داريّا مع عبور آلاف الطيور المهاجرة فوق سمائها فصنع مشهداً رائعاً يعكس أملاً لا يمكن لأكبر مؤسسات الاستبداد والقتل في العالم أن تقضي عليه.
في السنة الهجرية الأولى لأهل داريا حمل أحد المقاتلين الراحلين سلاحه الفرديّ إضافة إلى سلاحه الموسيقيّ (طبلة أو دربكّة) وكان زملاؤه في الحافلة يشاركونه الغناء.
هذه، وليس الطغيان، هي روح سوريا التي ستبقى.
المصدر : القدس العربي