مقالات

مدى الفاتح – بيتزا كيري وفودكا لافروف

في الجمعة الماضية وفي جنيف السويسرية وقّع كل من وزير الخارجية الروسي ونظيره الأمريكي اتفاقاً وصف في الكثير من وسائل الإعلام المهتمة بالقضية السورية بالمهم والاستثنائي.

احتفالاً بهذه المناسبة تم توزيع الكثير من الفودكا الروسية والبيتزا الأمريكية، وفي حين تناقلت وسائل الإعلام الخبر بشكل مقتضب، حرصت بعض القنوات على توثيق مشهد تدافع الصحافيين للفوز بقطعة بيتزا أو زجاجة فودكا.

قبل التوقف عند فحوى هذا «التفاهم» بين الأمريكيين والروس على مستقبل الدولة السورية، أحببت أن أقف عند هذا التفصيل المتعلق بما تم تقديمه للصحافيين عقب ما سمي بنجاح المشاورات. لقد اختار لافروف الفودكا وهو اختيار مفهوم لارتباط هذا المشروب المسكر بالثقافة الروسية لدرجة أنه صار أحد رموز التعبير عنها، أما الأمريكيون فعوضاً عن اختيار طبق شعبي فقد اختاروا البيتزا التي تمت تسميتها بالبيتزا الأمريكية.

أعتقد أن لافروف انتصر مرة أخرى على نظيره كيري حينما قال مخاطباً الصحافيين: الفودكا روسية والبيتزا أمريكية. لقد فهمت هذه العبارة كالتالي: روسيا شعب عظيم وعريق يملك مشروبات ومأكولات متفردة، في حين تبدو أمريكا عاجزة عن تقديم وجبة معبرة عن ثقافتها وتاريخها. هنالك بالتأكيد وجبات أمريكية معروفة، لكن الأمر يبدو مضحكاً إذا وصفناها بالوجبات الشعبية العريقة، أي إذا وضعنا وجبات البرغر السريعة في كفة واحدة مع كبة بلاد الشام التي ترجع لأيام الأشوريين أو الكشري المصري المذكور في كتابات ابن بطوطة أو الكسكسي المغربي الذي ذكره ابن دريد في «جمهرة اللغة» قبل عشرة قرون أو يزيد، إضافة لأصناف شهيرة وتقليدية أخرى في آسيا وافريقيا وحتى أوروبا.

الحقيقة هي أن الولايات المتحدة دولة حديثة التكوين لم تكن شيئاً مذكوراً قبل قرن واحد أو قرنين من الزمان، كما أنها دولة قامت على القطيعة مع التراث الأمريكي الحقيقي، أي ثقافة السكان الأصليين التي نظر إليها القادمون الجدد، بمن فيهم المثقفون والعلماء، بتعالٍ واحتقار قبل أن يطبقوا عليهم أسس النظرة الداروينية التي تقرر أن البقاء للأقوى والأصلح، وهو ما يعني بعبارة أخرى أن الموت للأضعف.

لو لم تتم إبادة أولئك الهنود الحمر وغيرهم من السكان الذين لا نعرف عنهم شيئاً والذين كانوا يقطنون تلك الأرجاء منذ القدم، لكان لدى كيري ما يقدمه تلك الليلة غير البيتزا التي كنت أظن حتى وقت قريب أنها خصوصية إيطالية! التاريخ هو عقدة أمريكية بامتياز. هو عقدة لأنه شيء لا يمكن شراؤه بالمال، ولا يمكن للتقدم المادي مهما بلغ أن يوجده، ومن المزعج بالنسبة للأمريكيين أن تتحدث دول تبدو اليوم فقيرة ومعدمة ولا وزن لها على الساحة الدولية، عن تاريخ ممالكها القديمة وعما ساهمت في تقديمه للعالم، في حين يكتفي الأمريكي بسرد القصص عن حرب الاستقلال الأمريكية والصراع بين الأسود والأبيض ثم عن ثورة المال والصناعة وهي كلها حكايات مشوقة لكن معاصرة إذا ما أخذت بوجهة نظر تاريخية.

ومثل اللقيط الذي يريد أن يعوّض أحساسه بالنقص عن فقد الاسم والعائلة بالتأثير في واقع الناس وخلق اسم جديد، تبدو الولايات المتحدة اليوم مهووسة بالتأثير في العالم وبالتواجد في كل مكان وكل وقت، فهي تحتضن اليوم أهم متاحف العالم، وتموّل الكثير من برامج اليونسكو الخاصة بالتراث العالمي، غير حضورها الدبلوماسي والعسكري الطاغي وشبكة سفاراتها وملحقياتها التي يعمل بها المئات من الموظفين. عقدة النقص هذه هي التفسير الوحيد لذلك الانتقام الهمجي من الآثار العراقية ومن متاحف بغداد العريقة، فبخلاف وزارة البترول وغيرها من المناطق ذات الأهمية المادية المباشرة بالنسبة للمحتل، تعمّد الغازي الأمريكي أن يجعل تلك المتاحف التي تلخّص قصة أهم الحضارات الإنسانية في مهب اللصوص والمخربين، بل لم يصدر عن إدارة الاحتلال أي تعبير عن القلق بشأن تلك المقتنيات النفيسة، وهي الدولة التي أقامت العالم ولم تقعده بعد أن بدأت حكومة طالبان بحملة لتكسير تماثيل بوذا.

من مفارقات الاجتماع الأخير، ومفارقاته في الواقع كثيرة بشكل يجعل حصرها صعباً، أن كيري الأمريكي ولافروف الروسي اجتمعا وجلسا تلك الجلسة الخاصة من أجل تقرير مصير الشعب السوري، في الوقت الذي تدعو فيه بلادهما إلى ترك مسألة تقرير مستقبل سوريا للشعب وحده. الطرفان متمسكان حتى الآن بهذا القول. المشكلة هي أن هذه العبارة يفهمها كل طرف على طريقته، فلافروف من جهته يثق بأن الشعب السوري لن يختار بديلاً عن الأسد الذي حماه من «المجموعات الإرهابية»، ولذلك فهو يبني مواقفه على هذه المسلمّة وينطلق منها. أما جون كيري فهو يتبنى وجهة النظر الأوبامية من أن الأسد قد أصبح بلا شرعية وألا مكان في هذا العالم لرئيس يقتل شعبه، وهو يعتبر أن الشعب سيقف بالتأكيد مع الشرعية البديلة التي تدعو لها إدارته والتي قد لا تتضمن، بالضرورة، المتحدثين الحاليين باسم المعارضة.

للتذكير فإن هذا الاجتماع دعا في مخرجاته إلى وقف كامل وشامل لإطلاق النار وإعطاء المنظمات الإنسانية فرصة لتوزيع المساعدات وإلى التوحد ضد «تنظيم الدولة» و«النصرة» وما ارتبط بهما من مجموعات «إرهابية»، كما عبّر عن استعداد جميع الأطراف للعودة إلى المسار التفاوضي باعتماد الحل السياسي بديلاً عن العنف والحرب. المشكلة الوحيدة هنا هي أن هذا الاجتماع لم يشارك فيه أي ممثل عن الأطراف المتصارعة على الأرض لا من جهة النظام ولا من جهة المعارضة، بما فيها المعارضة المرضي عنها من قبل المجتمع الدولي.

الفرضية التي تقول إن الروس يتحدثون باسم النظام، في حين يتحدث الأمريكيون باسم المعارضة خاطئة، أو على الأقل فهي غير دقيقة في جزئها الثاني، ففي حين تتماهى المصلحة الروسية مع مصلحة نظام الأسد في البقاء، يبقى الوضع من وجهة النظر الأمريكية مختلفاً، فالولايات المتحدة لا تقدم مساعدة فاعلة للمعارضة المسلحة، ماعدا أصدقاءها الجدد من الأكراد، الذين صار وضعهم على المحك مع التفاهمات التركية الروسية الأمريكية الأخيرة.

الأمريكيون لا يتحدثون في الواقع لا باسم الشعب ولا باسم الثورة السورية ولا حتى باسم مجموعة الدول الإقليمية التي تصوّر إعلامياً كداعمة للحراك الثوري السوري والتي تم تهميش دورها هي الأخرى عبر هذا الاتفاق. الأمريكيون يتحركون ويتحدثون فقط تعبيراً عن مصلحتهم الوطنية التي تتلخص في ضرورة القضاء على تنظيم الدولة وفي ضرورة قص أظافر التنظيمات الإسلامية الأخرى قبل أن تطول وتتمدد وتخرج عن السيطرة، وهو المنطق ذاته الذي يسيطر على الروس ويحملهم على استهداف المدنيين السنة بقسوة بلا تفريق بين المقاتلين الفعليين والإرهابيين المحتملين. هكذا وجد الطرفان أنهما، وبغض النظر عن مسألة مصير الأسد، يلتقيان على مبدأ استراتيجي.

أقول في الختام إن أي متابع لواقع الحدث السوري يستبعد أن يقود هذا الاتفاق لحل شامل ونهائي، فالأحداث هناك أشد تعقيداً من أن تحل بواسطة اجتماع بين رجلين لم يفوضهما أحد للتحدث باسمه، كما أن المنخرطين في الأعمال الميدانية اليومية الذين يقدمون تضحيات غالية كل يوم يعلمون من خبرتهم خلال السنوات الأخيرة أن الكلمات البراقة كالهدنة والحل السياسي كثيراً ما تعني على أرض الواقع معاني مختلفة، فالهدنة السابقة التي تم الترويج لها في بداية العام سمحت بتقدم معسكر النظام وتوغله في عدة مناطق بعد محاصرة وتهجير أهلها. الغريب هو ذلك الصمت والبرود الذي يتعامل به الغالب من الدول والمنظمات العربية والإسلامية مع القضية السورية. هنالك ترقب ساذج وتفاؤل لا مبرر له في ظل تواصل الغارات الجوية التي ما تزال تسقط العشرات من المدنيين كل يوم. لا يحتاج المرء لكثير من الذكاء ليقول ألا حل سحريا سينتج عن مزيج البيتزا والفودكا.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى