لا نعرف إذا كان حكام العالم وزعماؤه يصدّقون أنفسهم ومقتنعين بأن خطاباتهم الصاخبة أمام القمة السنوية للأمم المتحدة يمكنها أن تحدث فارقاً أو تغييراً، أم أنهم يدركون صورية ما يقومون به وأنه لا يُنتظر من هذه القمم الروتينية أي منفعة أو مردود! في حين يدرك السوريون جيداً، ماهية هذه المنظمة الأممية المثقلة بالعجز عن مساعدتهم في محنتهم وعن تنفيذ كثير من القرارات التي اتخذت لمعالجة مأساتهم، وهم خير مَن خَبِرَ شدةَ وحجم «القلق» الذي أبداه مراراً أمينها العام تجاه ما يكابدونه من عنف وتشريد وحصار واضطهاد!
ربما هو حظ السوريين التعيس، وشعوب الربيع العربي عموماً، أن تقترن ثوراتهم ورغباتهم في التغيير بظروف عالمية غير مناسبة، ولنقلْ معيقة ومؤذية، ما أشعر السوريين بوجود ما يشبه حالة تواطؤ دولي على إطالة زمن صراعهم الدموي ومنعهم من بناء مجتمع ديموقراطي واعد، تبادلت فيها، إلى جانب قوى الاستبداد والتطرف، دول الغرب والشرق، أدواراً متنوعة ومخزية، لكنهم اتفقوا جميعهم على استرخاص دماء السوريين ومستقبل أجيالهم والاستهانة بما يحل بهم من فتك وخراب. ولا يغير هذه الحقيقة المُرة تكرار الدعوات الصاخبة لوقف العنف المفرط ومشاريع هدن لا تتعدى استراحة المحاربين، ولا زيادة بعض المعونات المخصصة للاجئين والمتضررين، ولا الجهود المبذولة لإحياء مفاوضات سياسية لا تزال إلى اليوم مسقوفة بالفشل!
صحيح أن الحاجة الرئيسة لإنشاء الأمم المتحدة كانت إزالة آثار الحرب العالمية الثانية ومحاصرة فرص نشوب حرب جديدة، ما مكّن الدول المنتصرة من احتلال موقع متميز في مؤسساتها، وجعل مجلس الأمن كسلطة مهيمنة، أشبه بأداة توافق بينها لتسوية الصراعات والنزاعات، وغالباً على حساب الشعوب الضعيفة، وصحيح أن مياهاً كثيرة جرت وخلقت مهمات أممية ذات طابع إنساني تحتاج إلى تضافر جهود الجميع للتوصل إلى حلول لها، منها الكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات وظواهر الانحباس الحراري والتصحر، ومنها مخاطر اضطراب العدالة الاجتماعية وتفاقم الفقر والبطالة والهجرة وانتشار الآفات والأوبئة وتفشي الاندفاعات العدوانية والنزاعات المختلفة، لكن ما هو صحيح، وللأسف، أن العالم الذي يفترض، في ضوء ما سبق، أن يتجه صوب الحاجة للتكاتف والتعاضد وتطوير الأمم المتحدة ومجلس أمنها وبلورة أداة أممية صالحة للتنسيق العادل بين مختلف المكونات العالمية ولإدارة الخلافات بينها على أسس سلمية، سار على النقيض تماماً، نحو أمراض الاستئثار والظلم وتغليب المصلحة الذاتية، دافعاً العديد من المجتمعات إلى التطرف والانكفاء والاحتماء بملاذاتها الإثنية والدينية والطائفية.
ألا يصح النظر من هذه القناة إلى انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي؟ إلى تصاعد الدعوات الإسرائيلية لإقامة دولة يهودية تبعد العرب المسلمين والمسيحيين منها؟ إلى ضيق صدر الشعوب من التعايش مع الآخر المختلف، واستِعار الصراعات الدينية والمذهبية لأتفه الأسباب؟ إلى تنامي التفرقة العنصرية في أكثر بلدان الغرب إعلاءً لقيم المواطَنة والمساواة ربطاً بتقدم وزن اليمين المتطرف في مشهدها السياسي؟ إلى تفشي روح التسلط والاستئثار على حساب المشاركة والمساواة وحقوق الإنسان، وعودة النهج القديم بتفضيل الأمن والاستقرار على التغيير الديموقراطي واحترام الكرامة الإنسانية، ما مكن أنظمة الاستبداد من استعادة زمام المبادرة لتسويغ القمع والقهر والتفرد في الحكم وفرض ما تراه من نمط حياة على شعوبها.
وإذ تعني العودة لسياسة الاستئثار والأنانية وتقدم المصالح الخاصة للدول، فشل الانفتاح على الآخر وتراجع القدرة التوافقية العالمية على إدارة هذا الكوكب بصورة مفيدة للجميع، فإنها لم تأت من فراغ، بل صنعتها أسباب متضافرة، منها تردي الحياة المعيشية للكثير من الشعوب جراء إخفاق الخطط التنموية وانفلات ظواهر الاستغلال والجشع والفساد، ومنها تنامي أزمة اقتصادية عالمية أضعفت القدرات الذاتية في تقديم المزيد لمصلحة العام الإنساني، ومنها العجز عن نشر ثقافة أممية ترسي قيم المواطَنة وحقوق الإنسان. وزاد الطين بلة انحسار المعيار الديموقراطي في تقويم الأنظمة السياسية، ما مكّن جماعات فئوية من السيطرة على مقاليد الحكم، لا يعنيها العمل الجماعي والبعد المؤسساتي العالمي بقدر مصالحها الضيقة ودوام هيمنتها على شعوبها وامتصاص ثرواتها، ومنها أخيراً، التأثير اللافت لسياسة الإحجام والانكفاء لدى الولايات المتحدة، بصفتها القوة الأعظم والقاطرة التي تقود العالم، وميلها للاهتمام بقضاياها الداخلية بعد وصول أوباما إلى الحكم، كرد فعل على النتائج المخيبة للآمال التي نجمت عن السياسة التدخلية النشطة إبان حكم الرئيس بوش.
والسؤال: هل كانت ستلقى ثورة السوريين المصير ذاته في حال كانت الأوضاع الدولية والإقليمية على غير ما هي اليوم؟! وهل كانت البلاد لتُستباح لو كان للإرادة الأممية كلمتها النافذة في محاصرة العنف وتمكين الناس من تقرير مصيرهم؟!
ثمة من يجيب بنعم، محمّلاً أطراف الصراع الداخلية المسؤولية الرئيسة عما آلت إليه الأمور، بدءاً بسلطة تنكرت للأسباب والحلول السياسية ولجأت إلى الفتك والتنكيل على أمل إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وانتهاء بجماعات إسلاموية متطرفة يفتنها العنف وتزدري السياسة. وزاد الأمر تعقيداً احتدام صراع الطامعين على موقع هذا البلد ومقدراته. وفي المقابل، ثمة من يرجح مساراً سورياً مختلفاً لو اقترن بإرادة دولية حازمة ومسلحة بإجراءات عقابية تحاصر قوى الصراع الداخلية وتجبرها على ترك ميدان العنف.
وبين هذا وذاك يعتقد آخرون أن المحنة السورية، شكلت محكاً تاريخياً، فضح بَلادة المنظمة الأممية، ومهد لنقد بنيتها التنظيمية والجذور القانونية التي مكّنت الدول الكبرى من تسخيرها في خدمة أغراضها الخاصة من دون أن تعبأ بمصالح الآخرين وحقوقهم، والأهم أنها شكلت حافزاً قوياً لخلق رأي عام يتطلع لبنية ودور أمميين جديدين يقومان على دعم عالم لا ظلم فيه ولا عنف، وعلى إدارة حالة من التوافق بين مختلف مكوناته على أسس عادلة.
المصدر : الحياة