يتفاقم النزاع السنّي ـ الشيعي في العالم العربي، وتجري خلاله محاولات تغيير ديمغرافي في سوريا والعراق يساهم فيها تدخّل إيران في المنطقة العربية وأدواتها كـ «حزب الله» اللبناني والميليشيات الشيعية العراقية، وتطييف الصراعات السياسية عموماً من يمن «أنصار الله» الحوثيين وصولاً إلى الأخبار اليومية المتداولة عن التوازي بين النشاط السياسي الإيراني في المنطقة العربية ونشوء جمعيات شيعيّة في فلسطين ومصر والجزائر وتونس والمغرب، ويعاكسه، من الجهة الأخرى، انتشار تيّارات سلفيّة سنّية، وتزايد التطرّف السياسيّ على شاكلة تنظيمات كـ«الدولة الإسلامية»، وهي تنظيمات إرهابية مسلّحة ترفض النظم السياسية القائمة، بل تقاتل أيضا تيّارات الإسلام السياسي السنّي التي تتقبل وسائط العمل السياسي الحديث من برلمان وحكومة وأحزاب.
ينطلق خطاب أمين عام «حزب الله» اللبناني، السيد حسن نصر الله، الذي ألقاه بمناسبة عاشوراء، أمس، من مواقف سياسيّة ـ طائفية تنخرط، بوضوح، في هذه المعمعة السياسية والعسكرية الرهيبة الجارية في المنطقة العربية.
ورغم الكاريزما الشخصية التي يتمتع بها زعيم «حزب الله»، فإن مجريات الأحداث، وخصوصاً بعد انخراط الحزب المباشر في دعم نظام بشار الأسد في سوريا، أدّت إلى تآكل هائل في مصداقيّة الحزب، والذي كان، حتى سنوات قليلة، يتمتّع بشعبيّة كبيرة لدى الجماهير العربية (وكذلك الجماهير السوريّة التي يقاتل ثورتها حاليّا)، وخصوصاً خلال حرب إسرائيل العدوانيّة على لبنان عام 2006.
ورغم استمرار نصر الله في خطاباته السياسية في الإشارة المتكررة إلى فلسطين وقضيتها، وحصول مناوشات عسكرية متفرقة بين «حزب الله» وإسرائيل، فالواضح أنه، بعد القرار الأممي رقم 1701 بإنهاء العمليات القتالية مع إسرائيل وانسحاب الحزب إلى شمال نهر الليطاني، التزم الحزب بالقرار بحيث تقلّص الصراع مع إسرائيل إلى حديث عن احتلالها لمنطقة صغيرة من لبنان تدعى مزارع شبعا، وصارت مناوشات الحزب مع تل أبيب، تدور، من حين لآخر، في تلك البقعة من الأرض فحسب.
بعد حادث اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري عام 2005، الذي قلب توازنات القوى في لبنان، جاءت نهاية حرب 2006 لتنهي فصل الصراع الإيراني ـ الإسرائيلي المباشر ويتجه الحزب لمهمة السيطرة على لبنان، وجعله قاعدة تربط إيران بالبحر المتوسط عبر العراق وسوريا.
وبعد تأمين هيمنته على الوضع السياسي هناك جاءت الثورة السورية عام 2011 لاستخدام الآلة العسكرية والبشرية للحزب لدعم قوى النظام السوري المتهاوية، من دون اهتمام بما لتأثير ذلك من تعزيز رهيب للتطرّف المقابل ولتقوية النزاع الشيعي ـ الملتهب في أرجاء المنطقة العربية.
المتفحّص لخطابات نصر الله، لا يستطيع ألا يلحظ اختلاط الطائفيّ بالسياسيّ بشكل فاضح، فخريطة السيّد السياسية تتلوّن باللون المذهبي من دون اكتراث بمنطق، فهو ينتقد بقسوة ضربات «التحالف العربي» في اليمن، معتبراً أنها تصدر عن رغبة في الانتقام، ويتجاهل، في اللحظة نفسها، آلة القتل الدائرة في سوريا والتي صار فيها نظام الأسد وميليشياته مجرّد حجر على رقعة شطرنج إيران وروسيا، ويغضّ النظر عن تدمير المدن وقصف المشافي والمدارس والمخابز وتهجير الملايين من السكان.
يقول نصر الله في خطاباته إن إيران والنظام السوري يحاربان تنظيم «الدولة الإسلامية»، ويتجاهل أن تدخّله في سوريا جاء بداية في بلدة القصير قرب حمص وكانت ضد «الجيش السوري الحرّ» وما يسمى حاليّا، فصائل المعارضة المعتدلة، وقبل وصول «داعش» إلى سوريا أصلاً (وهو ما ساهم، فعليّاً، في تراجع المعارضة المعتدلة وتقدّم المتطرفين)، كما يتجاهل التحالف القائم بين الحكومة العراقية، المرضيّ عنها إيرانيّا، والولايات المتحدة الأمريكية، ويغضّ النظر عن الصراع الوجودي الذي تخوضه السعودية نفسها ضد «داعش» و«القاعدة»، وكذلك الأمر تركيّا، وذلك لأن هاتين، في منطق نصر الله، دولتان «سنّيتان».
خلط الطائفيّ بالسياسيّ كان مقنّعاً حين كان الصراع المعلن ضد إسرائيل ولكنّه عندما صار صراعاً للهيمنة على لبنان، وانتصاراً للدكتاتورية الأمنية في سوريا، وتحالفاً مع الرئيس السابق علي صالح في اليمن، وتقبّلاً للتحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية في العراق، غدا خطاباً هزيلاً وانفضّ سامر «الجماهير العربية» ليقتصر على جمهور شيعيّ يدافع عن سيادة مذهب على آخر.
المصدر : القدس العربي