لا يحتاج الأمر إلى أدلة أو براهين لإظهار الموقف التركي تجاه الحُكْم في مصر، فالرئيس رجب طيب أردوغان ينتمي أصلاً إلى الجماعة ذاتها التي حكمت مصر لسنة ثم أطاحتها ثورة شعبية، وهو لا يكل ولا يمل من إعلان موقفه ويواصل هجومه الحاد وإطلاق عباراته اللاذعة ضد الرئيس عبدالفتاح السيسي، ويعتبر ما جرى في مصر وإبعاد محمد مرسي من مقعد الحكم «انقلاباً»، ويسوق العبارات ذاتها والمنطق ذاته الذي تتحدث به جماعة «الإخوان المسلمين».
وبينما كان أردوغان مشغولاً بالاحتفاء بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وترتيب أسس جديدة في التعامل معه تقوم على الود والتفاهم والتعاون في المجالات كافة والملفات كلها، كان السيسي على الجانب الآخر يرد على مواقف أردوغان بطريقة مختلفة. لكن اللافت أن الرئيس المصري لا يتناول المواقف التركية من بلاده أو هجوم أردوغان عليه ولا يتحدث عن الأمر في أحاديثه، وتكتفي الإدارة المصرية عادة ببيانات قصيرة ومختصرة تصدرها وزارة الخارجية لتوضيح ما ترى أنه مغالطات أو تدخلات تركية في الشأن المصري. أما وسائل الإعلام المصرية فلا تفرق ما بين مواقف أردوغان من مصر ومواقف كل قادة جماعة «الإخوان» وعناصرها داخل مصر أو حول العالم الذين يبدو خطابهم ومواقفهم السياسية وكأنها تطبيق «كتالوغ» يحفظونه وينفذون بنوده.
كان لافتاً أن المشكلة القبرصية حضرت بقوة علناً في المؤتمر الصحافي الذي عقد في أعقاب القمة الثلاثية المصرية- القبرصية- اليونانية في القاهرة الثلثاء، إذ أكد السيسي ونظيره القبرصي نيكوس أناستاسيادس ورئيس وزراء اليونان ألكسيس تسيبراس «ضرورة الوصول إلى حل للقضية القبرصية يضمن توحيد الجزيرة، بما يلبي قرارات الشرعية الدولية».
قضية الجزيرة معروفة وتقسيمها والصراعات حولها والخلافات بين اليونان وتركيا عليها مزمنة وقديمة، والموقف المصري الثابت من القضية القبرصية هو عدم الاعتراف بجمهورية شمال قبرص التركية، تماشياً مع قرارات الشرعية الدولية. لكن القاهرة لم تسع في عقود سابقة إلى الانخراط في هذا النزاع في شكل واضح تجنباً لإثارة أنقرة والصدام معها، ما يطرح تساؤلات عما إذا كان المؤتمر الصحافي الذي استضافه قصر الاتحادية بعد القمة الثلاثية يُدشن لانخراط مصري في القضية القبرصية، خصوصاً أن الزعماء الثلاثة اتفقوا على مساندة كل دولة مواقف الدولتين الأخريين في المحافل الدولية.
السيسي أكد في كلمته خلال المؤتمر «استمرار دعم مصر جهود التوصل إلى حل عادل للقضية القبرصية، بما يضمن إعادة توحيد شطري الجزيرة، ويراعي حقوق القبارصة، وفق قرارات الأمم المتحدة ومقررات الشرعية الدولية». أما الرئيس القبرصي الذي حرص على تأكيد أن التعاون بين مصر وقبرص واليونان «ليس موجهاً الى أي طرف آخر» فعبر عن «العرفان» للسيسي «لدعمه المتواصل في مختلف المحافل الحل العادل للمشكلة القبرصية»، ولفت الى أنه منذ توليه السلطة في مصر «زادت قوة الدعم لدولة صغيرة مجاورة تعاني من مطامع أطراف ثالثة». أما رئيس وزراء اليونان فكان أكثر صراحة وحدة، حين أكد «أنه من المزعج أن نسمع أصواتاً من منطقتنا تتجه إلى الاتجاه المخالف، وتشكك في اتفاقات تاريخية دولية». ورأى أن «الرد على مثل هذا التشكيك يجب أن يكون مشتركاً وواضحاً جداً وثابتاً من ناحية المجتمع الدولي ودول الجوار»، مؤكداً «ضرورة إيجاد حل عادل للقضية القبرصية يعتمد على قرارات الأمم المتحدة، وبالطبع يكون حلاً لا يمكن أن يتضمن الحفاظ والإبقاء على قوات احتلال في قبرص».
الموقف المصري الواضح الذي يدعم «بقوة أكبر» حل القضية القبرصية، وفقاً لتصريح أناستاسيادس، قد يفسر على أنه «مناكفة» لأنقرة، رداً على مواقف وتعليقات الرئيس التركي، لكن حل تلك المشكلة قد يمثل مصلحة للقاهرة بعد أن باتت منطقة المتوسط من دوائر اهتماماتها الاقتصادية ذات الأولوية، فالوصول إلى حل لهذا النزاع يمثل ضرورة، بالنظر إلى المحادثات المصرية- القبرصية- اليونانية لترسيم المناطق الاقتصادية الخالصة لكل دولة في المتوسط تجنباً لأي نزاعات قد تنشأ في المستقبل تكون تركيا طرفاً فيها، في ظل تخطيط مصر للاستفادة بقوة من اكتشافات الغاز في مياهها الإقليمية، ونقل الغاز إلى أوروبا اعتماداً على «آلية التعاون الثلاثي» مع قبرص واليونان.
المسألة هنا أن مصر تضرب عصفورين بحجر واحد، إذ تتحرك في هذا الملف لتحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية من دون أن تخالف القانون الدولي أو القرارات الأممية، وفي الوقت ذاته ترد على أردوغان من دون كلام.
المصدر : الحياة