ما بين حلب والموصل تتواصل حملات التدمير المنهجي والتغيير السكاني في الهلال الخصيب كي يتم استكمال تحطيم العالم العربي ومدنه التاريخية وتغيير وجه الإقليم. منذ سقوط بغداد في العام 2003 يحدثوننا عن اليوم التالي في بلاد الرافدين، التي أرادها المحافظون الجدد مختبر “الشرق الأوسط الكبير” الذي بقي شعارا، وتحولت إلى ميدان النفوذ الإيراني والتفكك وصعود ما يسمى “داعش” والبقية تأتي.
أما في سوريا التي دخلت دوامة العاصفة منذ العام 2011، بدأ الأميركان عبر منظماتهم غير الحكومية يحدثوننا عن “اليوم التالي” منذ 2012، وها هي تتحول إلى حقل الرماية المفتوح حيث تجرب موسكو أسلحتها وتتحارب فيها الدول بالوكالة في “حرب الجهاد بطرفيه” وصراع إقليمي ودولي مفتوح.. والبقية تأتي.
أما اليوم التالي أو الأفق القريب لنهاية المأساة والعنف في قلب المشرق، فهذا يقترب ليس من الخديعة البصرية وحسب، بل هو بيع للأوهام بامتياز من قبل تجار السلاح والموت والدين وأصحاب مشاريع الهيمنة والحنين للإمبراطوريات في غياب مشاريع إنقاذ فعلية من أبناء البلاد وصعوبات التواصل لبلورة حلول واقعية وعادلة، بانتظار انعقاد “يالطا” أو “وستفاليا” أو “دايتون” أو “الطائف” أو “سايكس – بيكو”، ربما بعد تمركز الإدارة الأميركية الجديدة، وتخفيف اندفاع القيصر والمرشد والسلطان.
سيأتي هذا الأفق البعيد ولحظة التسوية أو الخلاص من المحنة “بعد خراب البصرة”، وفي هذه الأثناء يخيم الموت الزؤام والتنكيل بالناس في بلاد أولى الحضارات ومن الفخاخ في المرحلة الحاضرة، التبسيط في المقارنة بين معركتي الموصل وحلب.
إذ سرعان ما انتهز الرئيس الروسي فرصة انطلاق القصف ضد الموصل كي يركز على الشبه بين غارات التحالف الأميركي فوق العراق وغارات تحالفه فوق سوريا.
من الناحية العسكرية المحض، هناك قواسم مشتركة مع هذا الشكل من الحروب المعتمدة على سلاح الجو، حيث لا يختلف الذي جرى في الرمادي والفلوجة عن أسلوب “مدرسة غروزني” ولو على شكل أصغر، لكن الفارق يكمن في الأهداف إذ أن حرب استعادة المدينة الثانية في العراق تتم وفق توقيت زمني مقرر سابقا ووعود بتجنب المدنيين، بينما يندرج مسعى إخضاع أو استعادة شرق حلب ضمن إستراتيجية فلاديمير بوتين المستعجل للحسم، والذي يأخذ معركة الموصل والتجاوزات المحتملة ستارا لتسهيل حملته وحجب التركيز الإعلامي على محنة حلب وتفادي الضغط.
ولذا يبدو التكتيك البوتيني تصاعديا عبر تمرير هدنة محدودة لتسهيل إفراغ الأحياء من المدنيين، لكن في نفس الوقت تتحرك الأساطيل الروسية وتتم التهيئة لما يسمى حملة حاسمة متزامنة مع الاحتدام في الموصل واقتراب الانتخابات الأميركية.
بينما تعربد غربان الموت على شكل طائرات من التحالفين الروسي والأميركي ويدفع الثمن المدنيون والفقراء، ينعقد اجتماع عن مستقبل الموصل في باريس تحت عنوان التنبه لحقوق الإنسان ومنع الانفجار المذهبي واليوم التالي في إعادة بناء الدولة، يبدو ذلك ضمن حملات العلاقات العامة أو الحروب النفسية أو في استعجال تقاسم كعكة العقود لاحقا أي كمن “يبيع الجلد قبل صيد الغزال”. لكن الأدهى تجرؤ وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني على طرح “إعادة الإعمار” في سوريا ضمن خطة لفتح “حوار” مع القوى الإقليمية والتمهيد لعملية انتقال سياسي تكرس عمليا تأهيل النظام.
ويبرز “الاستفزاز” أو “الوقاحة” في تقديم هكذا اقتراحات قبل ساعات من انطلاق القمة الأوروبية في بروكسل، 20 و21 أكتوبر، والتي يفترض أن تتطرق إلى الملف السوري ودور روسيا في مواصلة النظام ارتكاب المجازر بحق المدنيين في مدينة حلب.
عادت موغيريني وأقرت بأن طرحها قد يبدو “غير واقعي” لأنه يتصور رحلة ما بعد إنهاء المأساة في حين أن النزاع لا يزال محتدما.
بيد أن الشقراء الإيطالية ربما تكشف المستور إذ أن كل هذه القوى الإقليمية والدولية التي تستثمر أو تتورط في نزاعات الفوضى التدميرية، تنتظر اليوم التالي بعد الحروب كي تشارك وتستثمر وتتقاسم مشاريع إعادة البناء، بينما تأتي مسائل إعادة بناء الدولة والمصالحة في المقام الثاني، إذا كانت أصلا مدرجة على جداول أعمال البعض.
من الناحية العملية، هناك الكثير من السيناريوهات المكتوبة والخرائط المرسومة، لكن الأرجح أن اقتلاع داعش من أراضيه كما يرتسم أمامنا، يضع حدا ولو بشكل مرحلي لمقولة سقوط حدود سايكس – بيكو، ويعيد التركيز على إعادة تركيب هذه الكيانات المشرقية من الداخل.
بالرغم من التداول المبالغ فيه عن مشاريع تقسيم أو “فَدْرلة” في سوريا، تبقى الصورة غامضة والتفكك والاهتراء سيدي الموقف في ظل انتزاع روسيا لقيادة منطقة النفوذ الأكثر جدوى (أو ما يسمى سوريا المفيدة) وإرضاء تركيا بمنطقة “آمنة” وإيران بممر بري لهلالها الإمبراطوري.
أما على صعيد العراق فيمكن العودة إلى تطبيق محدث لمشروع جو بايدن (قدمه نائب الرئيس الأميركي الحالي حينما كان سيناتورا في العام 2003) حيث أن ما بعد استعادة الموصل، يمكن أن يدفع سكان المناطق والمدن ذات الأغلبية السنية، في محافظات الأنبار ونينوى وديالى صلاح الدين وأجزاء من كركوك، للتجمع في إقليم على حدة.
وحسب دراسة حديثة لمعهد هدسون الأميركي “يمكن لمناطق العراق الغربية أن تعتمد على مقومات لدعم استقلالها وأهمها موارد طبيعية كبيرة غربي العراق ومنها الفوسفات، وحقل غاز عكاس الذي يتوقع أن يحوي ما يقارب 5.6 تريليونات قدم مكعب”.
ما بعد الحرب العالمية الأولى غيرت رائحة النفط حول الموصل الخرائط وتقاسم النفوذ. هذه المرة في اليوم التالي، هناك الاكتشافات الموعودة للغاز من الموصل إلى شرق المتوسط، وهي بالطبع إلى جانب الاهتمامات الإستراتيجية تجذب الكثير من اللاعبين وتخيف نائب رئيس الوزراء التركي نعمان قورتولموش من الوصول إلى صراع عالمي.
المصدر : العرب