مقالات

مدى الفاتح – آثار إقليمية لمعركة الموصل

يروّج كثيرون لوجود حرب غير معلنة بين كل من تركيا وإيران تتخذ من مدينة الموصل ميداناً لها. هذه الفرضية المؤسسة على القول بوجود تحالف سني ينافس الوجود الطائفي الشيعي هي برأيي غير واقعية، لأن ما يسمى بـ»التحالف السني» هو عملياً شيء غير موجود على الأرض، أو على الأقل غير ظاهر في معادلة الأحداث ظهور التحالفات الميليشيوية الأخرى التابعة لطهران.

هذه المبالغة العاطفية أتت بنتائج عكسية وساهمت في المزيد من التضييق على المكوّن السني وتشويه صورته، مثلها في ذلك مثل المبالغة الأكبر الخاصة بالحديث عن تحضير تركيا لدعم جيش سني من أهل المنطقة وإعداده ليس فقط للدفاع عن وجوده وإنما لتشكيل ظهير عسكري لها.

الواقع هو أنه لا يوجد أي دور «فارق» لتركيا في معركة الموصل وأن تواجدها في معسكر بعشيقة وما تعلّق به من حديث عن تدخل تركي إنما كان الغرض الأول منه هو حماية الحدود والأمن التركي وليس أبداً حماية الشعب العراقي، وهو السبب ذاته الذي شجّع القيادة التركية للتدخل في سوريا تحت مسمى «درع الفرات». تدخل لم يغضب التحالف الأمريكي ولم يقدّم أي خدمة فعلية لمسار الثورة السورية. هنالك جهود حالية تسعى لإعادة الثقة بين كل من تركيا والأطراف الخليجية، بعد سنوات مد وجزر وعلاقات أقرب للفتور والبرود. تركيا ترحب بهذه الجهود وتتبنى بعضها، لكنها في الوقت ذاته تخطو خطوات مهمة في علاقتها بشريكها الإيراني الذي لم تمنعها اختلافاتها معه من التعاون المشترك والبناء على ما يفيد البلدين في نواحي التبادل التجاري والاستثمار، وهو ما تعمّق أكثر إبان الأزمة مع روسيا، حيث أدركت تركيا أهمية هذا البلد كشريك وبديل اقتصادي.

قبل أيام أوضح عمر قورقماز مستشار الرئاسة التركية رؤية بلاده لموضوع التدخل في الموصل قائلاً إنها لا تستند إلى ايديولوجيا طائفية، بل موقف أخلاقي، وأن تركيا تخشى وقوع مجازر في المنطقة ضد السنة، وتحاول منعها بالتعاون مع المجتمع الدولي. الموقف الأخلاقي، بحسب ما يشرح قورقماز، يعني أنه لو كان المستهدف طائفة الشيعة أو أي مكوّن آخر لسعت الدولة التركية لحمايته. هذا الموقف التركي يبدو في غاية الدهاء، فهو يوجه رسالة مهمة للأقليات بالداخل بأن القيادة التركية غير مقتنعة بالحرب المبنية على أساس الطائفة أو العرق، كما أنه يوجه رسالة تطمين لإيران التي يصعّد إعلامها من لهجته العدائية ضد تركيا هذه الأيام، كما يوجّه في الوقت ذاته رسالة حضارية للاتحاد الأوروبي الذي يراقب تحركات تركيا باهتمام.

ذكرنا كل ذلك لنقول إنه وفي ظل هذه المعطيات يصبح الوصف الصحيح للأزمة حول الموصل ليس الحرب بين محوري تركيا وإيران، وإنما التنافس بين قوتين إقليميتين على مصالح متقاطعة. من المهم أن نعلم هنا أن هذا التنافس لن يؤدي بأي حال إلى تدهور درامي في العلاقة بين الجمهوريتين، أي أنه لن يؤدي بأي حال لانخراط تركيا في حرب معلنة ضد إيران ومهاجمة مناطق نفوذها كما يتمنى ذلك بعض المتحمسين. هكذا تبدو معركة الموصل أكبر من مجرد حرب على تنظيم إرهابي يتخذ من هذه المدينة حاضرته ونقطة انطلاق لعملياته. من المتوقع أن تشهد المدينة إجراءات غير إنسانية على الأرض، إجراءات ستلقى الكثير من الدعم والتبرير الدولي فقط لارتباطها بالمفهوم الغامض «للحرب على الإرهاب». يرى عدد من المحللين أن العراق لم يصعّد أزمته مع تركيا في هذا التوقيت إلا بطلب من إيران. في الواقع فإن علاقة إيران بتركيا أكثر تعقيداً مما تبدو عليه، فهي تعتبر من أهم شركائها الاقتصاديين، لكنها، وفي الوقت ذاته، تعد من أهم المنافسين السياسيين، حيث تتشارك مع جارتها تركيا ذات المجال الحيوي المتمثل في سوريا والعراق.

يتحلى الطرفان بمهارة يحسدان عليها في ضبط النفس والتمسك باللياقة الدبلوماسية، وهو ما يظهر من خلال الزيارات رفيعة المستوى التي لم تنقطع حتى في ذروة التضاد السياسي، بل إنه في ظل هذا التضاد ارتفع التبادل التجاري بين البلدين إلى قرابة الثلاثين مليار دولار. إيران تبدو واثقة من خطواتها وتحالفاتها، على عكس أعدائها المرتبكين المشتتين، ويجب الاعتراف هنا بأنها نجحت في تحييد تركيا لتصبح هي صاحبة الصوت الأقوى في القضية السورية بكل ملفاتها، بمساندة حليفها الروسي، كما أنها تعتبر اللاعب الأهم في العراق وفي معاركه الحالية، ليس فقط بفضل سيطرتها على القرار العراقي، ولكن أيضاً بفضل الصداقة التي أنشأتها مؤخراً مع الولايات المتحدة، الداعم الأساسي والراعي المعلن للحكومة العراقية، ما يجعل من غير الممكن تجاوزها في معركة الموصل الحالية.
دولياً تعد الولايات المتحدة من أهم حلفاء تركيا، لكنها، وهي المسؤولة عن تأمين حلفائها، تلعب لعبة خطرة جداً بالنسبة لتركيا، حيث تعتمد في حربها على «الإرهاب» على مجموعات كردية يصنفها أولئك إرهابية، وهي مجموعات نجح بعضها بالفعل في توجيه ضربات موجعة في الداخل التركي.

أما العرب فهم في وضع لا يحسدون عليه. هم يعتبرون أنفسهم في حالة حرب ضد إيران، التي تتقدم نحو حدودهم بثبات وتكاد تطوّق بلادهم من جميع الجهات. شعوب تؤمن قياداتها، أو معظم قياداتها، بأن نوايا العراق عنصرية وطائفية في الحروب التي يعلن عنها، وأن هدفه الاستراتيجي هو خلق تغييرات ديموغرافية والتضييق على السنة في مناطقهم. رغم ذلك فإن هذه القيادات لا ترى بداً من دعم الحكومة العراقية في حربها الهلامية ضد «داعش» وضد الإرهاب، بل إنهم جزء مهم من التحالفات الدولية الموجهة، إسماً، ضد التنظيم. الارتباك العربي يظهر في العلاقة مع العراق، كما يظهر في العلاقة مع تركيا ومع الولايات المتحدة، فمن ناحية هم يبدأون في خلق شراكات جديدة مع تركيا كحليف استراتيجي تجمعهم معه مصالح كثيرة، لكنهم يبدون في الوقت ذاته قريبين من العراق القائم برعاية أمريكية، حيث يهدد أي عداء ظاهر مع المجموعة العراقية الحاكمة العلاقة مع الأمريكيين التي تعد من أهم أولويات السياسة الخارجية العربية.

الولايات المتحدة، التي تعد حليفاً مهماً لكل من العراق وتركيا، تبدو متورطة، فهي وقفت في البداية مع العراق الرافض لأي تدخل عسكري تركي في أراضيه لدرجة التصريح بأن تركيا ليست جزءاً من تحالفها الدولي، لكنها ما لبثت أن تراجعت متحدثة عن أهمية تركيا وضرورة مشاركتها في مؤتمر مهم لدراسة وضع الموصل بعد «التحرير». ربما جاءت زيارة وزير الدفاع الأمريكي بداية هذا الأسبوع إلى المنطقة لتصب في اتجاه تقريب وجهات النظر بين حليفيها المهمين اللذين لا تستطيع الاستغناء عن أي منهما حالياً.

رغم حديث الأمريكيين المتفائل عن الوضع التي ستؤول إليه البلدة بعد ما يسمى بالتحرير، فإن تجارب سابقة كثيرة تؤكد لنا أن الأمر لن يكون بهذه الصورة الوردية، وأن قرابة المليون نازح من السنة الذين سينتجون عن هذه الحرب لن يجدوا في اليوم التالي مآوي مناسبة ولا حتى تعاملاً لائقاً بالداخل العراقي. أين سيذهب هؤلاء وهل هناك من سيحل محلهم بهدف تغيير ديموغرافية المنطقة؟

ما هي الجهة التي يمكنها استقبال مئات الآلاف من النازحين؟ هل هي كردستان العراق مثلاً؟ كيف سيؤثر ذلك على الحكومة هناك وهي التي تشكو حالياً من تعقيدات اقتصادية جادة؟ أم ربما سيتوجهون إلى تركيا التي لن تستطيع، وهي تتحدث باسم المدنيين طوال الوقت، أن توصد أبوابها دونهم؟

الحقيقة هي أنه سواء توجه اللاجئون إلى تركيا أو إلى إقليم كردستان فإن المتضرر سيكون تركيا، فمن ناحية تبدو حكومة الإقليم مقربة إلى أنقرة بشكل يجعل أي محاولة لإضعافها ضرباً للمصالح التركية، خاصة إذا أدى تدهور الأوضاع لتنحية بارزاني وولادة إدارة جديدة قد تكون أقرب لطهران. أما دخول أعداد هائلة من اللاجئين العراقيين إلى الأراضي التركية فهو أمر يهدد الأمن التركي بشكل مباشر.

قال عقلاء كثر منذ البداية أنه يجب عدم فصل المعركتين في حلب والموصل عن بعضهما، لسبب بسيط وهو أن انعدام التنسيق قد يؤدي إلى انتقال سلس لمقاتلي التنظيم إلى داخل الحدود السورية. تلك ستكون أزمة جديدة ستعني في أبسط نتائجها أن هذا الاستهداف القاسي لم ينجح سوى في تحرير المدن العراقية الكبرى من أهلها المدنيين.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى