انشغل الرأي العام التركي، في الفترة الأخيرة، بالنقاش حول معاهدة لوزان. وذلك في أعقاب تصريحات للرئيس رجب طيب أردوغان اعتبر فيها المعاهدة المؤسسة للجمهورية التركية هزيمة، لا انتصاراً كما قدمته النخبة المؤسسة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك.
أردوغان بارع بإشغال الرأي العام بنقاشات خارج السياق، للتغطية على مكامن المشكلات الحقيقية التي تعاني منها تركيا، وهي كثيرة بما يكفي لانشغال الجميع، حكومةً ومجتمعاً، بالبحث عن حلول لها. مشكلات في السياستين الداخلية والخارجية، وفي الاقتصاد والتنمية، وفي الثقافة والمجتمع والأمن.
غير أن للنقاش حول معاهدة لوزان بعده الراهن بالتأكيد، ويتصل بصورة مباشرة بمعركة تحرير الموصل من قوات داعش. تلك المعركة التي تقودها الولايات المتحدة وحلفاؤها في الائتلاف الدولي ضد داعش، في حين تخوضها، على الأرض، قوات الجيش العراقي وبيشمركه إقليم كردستان الفيدرالي والحشد الشعبي (الشيعي) الموالي لإيران. ونشأ سجال حاد بين أنقرة وبغداد، على خلفية مطالبة القادة الأتراك بالمشاركة في المعركة، والرفض القاطع لهذه المشاركة من قبل الحكومة العراقية المقربة من إيران، ومطالبة الأخيرة بخروج القوات التركية من معسكر بعشيقه.
واقع الحال أن تركيا ليست مستعدة لخوض معركة ثانية خارج حدودها، هي المنخرطة أصلاً في معركة درع الفرات، في شمال سوريا، ودون تحقيق أهدافها فيها عقبات شائكة، أمريكية وروسية وإيرانية وقوى محلية على الأرض. أضف إلى ذلك حربها الداخلية ضد حزب العمال الكردستاني، وحربها الثانية الاستئصالية لتصفية جماعة فتح الله غولن المتهمة بأنها وراء المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 تموز/يوليو الماضي، من غير أن تقتصر الإجراءات القمعية عليها وحدها. ويدار البلد، منذ ذلك التاريخ، وفقاً لحالة الطوارئ، وتتخذ الحكومة، في ظلها، «قرارات بمثابة القوانين» الأمر الذي يعني إقالة البرلمان من مهمته التشريعية حتى إشعار آخر، بعدما تم تمديد حالة الطوارئ لثلاثة أشهر إضافية قابلة للتجديد.
لكن للنقاش حول لوزان بعدا آخر يتصل بموضوع الانغلاق على الذات الذي بات، منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية، سمةً للمجتمع التركي وجد انعكاسه في السياسة الخارجية التقليدية لتركيا التي قامت على إدارة الظهر للمنطقة المضطربة التي تنتمي إليها، والانشغال بوهم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. الاستثناء الوحيد لهذه النزعة المحافظة، هو التدخل العسكري في قبرص، في العام 1974، ولعلها كانت ورطة لم تتمكن تركيا من التخلص من عواقبها إلى اليوم، وشكل استمرار احتلالها للجزء الشمالي من الجزيرة الصغيرة، على أي حال، العقبة الأهم أمام قبول تركيا في النادي الأوروبي.
في الحقبة السابقة على ثورات الربيع العربي من حكم «العدالة والتنمية» قاد أحمد داوود أوغلو سياسة انفتاحية جريئة قائمة على «القوة الناعمة»، أي الاقتصاد والتجارة والثقافة والدبلوماسية النشطة، تجاه محيط تركيا العربي ـ الإسلامي بصورة خاصة. وحققت تركيا، في ظل تلك السياسة، إنجازات مشهودة. لكن اندلاع الثورات العربية وضع لها نقطة النهاية، لتنتقل تركيا إلى سياسة تدخلية نشطة لا سوابق لها في تاريخ الجمهورية.
هذه الانعطافة الحادة، ستصطدم داخلياً بمعارضة وازنة يمكن إعادة أساسها إلى ما أسميه الانغلاق الاجتماعي على الذات. ويمكن تلمس مظاهره في وسائل الإعلام كما في ملاحظة سلوك الناس وكلامهم. يستغرب متابع وسائل الإعلام التركية المساحة الضئيلة جداً التي تخصصها للأحداث الكبيرة التي تجري في سوريا والعراق، وهما بلدان مجاوران مباشرةً للحدود الجنوبية، ناهيكم عن بلدان أبعد، في الوقت الذي تنخرط فيه الحكومة، بصورة مباشرة، في الصراعات الدائرة فيها. يعكس التجاهل هذا جهلاً كبيراً بشؤون البلدان المجاورة وما يدور فيها من أحداث جسام. جهل تعززه، فوق ذلك، انحيازات إيديولوجية مسبقة تعكس الاستقطاب الداخلي، أصلاً، بين تيار علماني وتيار إسلامي، وبين نزعة قومية تركية ونزعة قومية كردية، وبين محافظة اجتماعية ونزعة تحررية. ففي المسألة السورية، مثلاً، تجد مؤيدي الحكومة مع «ثورة سورية» هي، في نظرهم غالباً، ثورة الأكثرية السنية ضد «الحكم العلوي»، مقابل تأييد معارضي الحكومة لنظام الأسد بدعوى أنه علماني تارة، أو معادٍ لأمريكا تارة، أو لأنه علوي تارة ثالثة، ولأنه على طرفي نقيض مع الحكومة التركية في كل الأحوال، مع جهل الطرفين بتعقيدات المشكلة وتفاصيلها.
بل إن الجهل/التجاهل المذكور يتعدى الخارج إلى داخل المجتمع التركي نفسه، فنرى أن غرب تركيا يجهل شرقه، وإسطنبول بعيدة كل البعد عن سائر الأناضول، والتركي لا يعرف شيئاً عن الكرد الذين يشكلون القومية الثانية، ثقافياً واثنياً، بالمعيار العددي. تعيش داخل تركيا مجتمعات متعازلة، لا جسور تصل بينها، ولا حواراً يؤلف بين العقول والقلوب. يبدو هذا متعارضاً مع نزعة الانغلاق على الذات المصحوبة باعتزاز قومي مبالغ فيه. لكنه تعارض ظاهري، إذا عرفنا أن الاعتزاز هذا يتمحور حول هوية قومية تركية تشطب على التنوع الداخلي لمصلحة أمة متخيلة تتعيش على أمجاد ماضٍ امبراطوري يعاند في التمسك بالحياة، بعدما شبع موتاً.
بهذا المعنى، فإن «العثمانية الجديدة» التي تتهَمُ بها الحكومة التركية من قبل أقلام عربية وغيرها، هي نزعة اجتماعية – ثقافية أكثر من كونها سياسة حكومية. هناك مثقفون أتراك من تيارات محافظة، يتحدثون عن «الحدود المصطنعة» التي رسمها الاستعمار بين دول كانت، قبل قرن، جزءاً من الإمبراطورية العثمانية (العالم الإسلامي)، من خلال اختلاقه للأفكار القومية، بنفس الطريقة التي يتحدث بها القوميون العرب عن تقسيم الاستعمار للوطن العربي. ورأى أولئك المثقفون في ثورات الربيع العربي فرصة تاريخية لإزالة تلك الحدود المصطنعة.
وهكذا يترافق الحديث عن معاهدات سيفر ولوزان مع استعادة «الميثاق الوطني» الذي أعلنه برلمان أتاتورك، في العام 1920، وحدد حدود الدولة التركية التي ضمت، فيما ضمت، الموصل وكركوك. ثم كانت معاهدة لوزان التي عكست موازين القوى الواقعية بعيداً عن الأحلام الإمبراطورية.
المصدر : القدس العربي