في مناسبات عديدة سابقة، وبصيغ كثيرة ذات معنى واحد، أفصح قادة إيران، على مختلف مراتبهم السياسية والعسكرية، عن أطماعهم التوسعية في المشرق العربي، وأعربوا مراراً عن أشواقهم الإمبراطورية، باستعادة ممتلكات فارس، العقارية منها والتاريخية، في الديار العربية المستباحة، ناهيك عن تحقيق زعامتهم العالم الإسلامي، ضمن خطة عمل متدرجة، تبلغ حداً جنونياً بالسيطرة على أقدس المقدسات الإسلامية في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وتحويلها إلى مزارات شيعية.
ولا يعوز الباحث بذل جهد كبير، ليقف بنفسه على جوهر النوايا الإيرانية التي دخلت في طور التحقق العملي، منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وما أسفر عنه من خلل فادح في ميزان القوى الإقليمية، ومن ثم تسليم العراق على طبقٍ من فضةٍ لدولة الولي الفقيه الذي صار رب البيت في بلاد الرافدين، على الرغم من بعض الحضور الأميركي الموظف في خدمة المدّ الإيراني، بمنطق المجريات السياسية والعسكرية القائمة على الأرض.
وفيما كان آيات الله يملون أنفسهم، جهاراً نهاراً، على مفاصل الدولة في العراق، ويحوّلونها إلى مجرد دولةٍ على الورق، جاءت التطورات السورية المتفاقمة منذ أزيد من خمس سنوات، لتعطي المد الإيراني قوة زخم جديدة، وتمنح مشروع بعث الإمبراطورية البائدة فرصة أخرى متاحة، كي تبسط طهران يدها على ثاني أهم دولة عربية في الجناح الآسيوي، وتعطي لصلة قرابتها الملتبسة مع حاكم دمشق مضموناً مذهبياً على رؤوس الأشهاد.
ولعل آخر تجليات هذا المشروع التوسعي الذي يسابق نفسه بنفسه، خشية وقوع متغيراتٍ ليست في الحسبان، هو السعي إلى فتح ممر جغرافي عريض (خط حرير معاصر) يصل بين شمالي غربي العراق وشمال شرق سورية، ومنه إلى البحر الأبيض المتوسط، على نحو يُحدث ترابطاً أرضياً ممتداً من طهران وقم إلى بغداد ودمشق، ومنها إلى بيروت، وربما غزة فيما بعد، بكل ما يعنيه هذا الامتداد من عبثٍ بالخرائط والديمغرافيا والتوازنات التي تواصل انهياراتها المدوية.
على خلفية هذه النوايا الإيرانية التي لم تعد مضمرة، سارع قادة الحشد الشعبي الشيعي العراقي، وهم في طريقهم إلى مدينة تلعفر المحاددة بادية الشام، إلى الإعلان عن عزمهم التوجه من هناك إلى الرقة وحلب بعد الانتهاء من حرب الموصل، ترجمة لنداء رجل إيران الأول في العراق، نوري المالكي: قادمون يا موصل، ويا حلب، ويا يمن، في إشارةٍ، لا تنقصها الصراحة الفظة، إلى خطة إيران التوسعية، وأهدافها في السيطرة على البر والممرات البحرية، وإجراء ما يلزم من هندسةٍ سكانيةٍ بأبعاد مذهبيةٍ بحتة.
بكلام آخر، يقول لسان حال إيران، يقول بلغة غير أعجمية: العراق وسورية جبهة واحدة، وبعد أن دخل العراق في معدة الولي الفقيه الواسعة، جاء دور سورية، وآن أوان ابتلاعها كلقمة واحدة، ما إن يتم التخلص من بعض أشواكها الصلدة، أي حسم المعركة في حلب، مقدمةً لا بد منها لكسب الحرب في سورية كلها، ومن ثم حمل روسيا على مغادرة بلاد الشام، عندما تضع الحرب أوزارها، وتفقد موسكو كل مبرّرات وجودها الجوي في جغرافيا تمسك الأيدي الإيرانية فيها بالزمام، وتقبض على قيادتها السياسية بإحكام.
ومع أن هناك تحدّياتٍ موضوعية، يصعب على إيران جبهها في المدى المنظور، فإن نظام الملالي يملك، من دون ريب، نفساً طويلاً، طول نفس حائكي السجاد التبريزي، فلا يبدو في عجلةٍ من أمره، لتحقيق مشروعه بعيد المدى، طالما أنه يستميل، بسهولةٍ مفرطةٍ، أفئدة قادة الأقليات الشيعية المنتشرة في أغلبية بلدان المشرق العربي، ويدفع بالرعاع أمامه، وينجح في تقويض الدول من داخلها، ويستنزفها من الداخل، من دون أن يطلق عليها بنفسه طلقة واحدة، تماماً على نحو ما يجري في اليمن منذ نحو عشرين شهراً.
ومن مفارقاتٍ فارقة في هذه المرحلة، لا يعتمد المشروع التوسعي الإيراني فقط على الأقليات المذهبية المنتشرة في العالم العربي، للتحقق تدريجياً، وإنما يعتمد أيضاَ على مصادفاتٍ تاريخية نادرة، لتسريع إنفاذ السهام الإيرانية المسمومة في الجسد العربي المثخن بالجراح، في مقدمتها تكالب الغرب والشرق ضد شعوب هذه المنطقة على خلفية الحرب ضد الإرهاب الذي بات المبرّر الموضوعي لكل هذه التدخلات والاجتياحات والحروب، الجارية حصراً في المدن والمناطق السنية.
وفي التحليل الأخير، كل غارةٍ جويةٍ، أو طلقة مدفعية، تقصف بها أميركا تنظيم الدولة الإسلامية في الموصل أو الرقة أو الأنبار، وكل صاروخ غير ذكي تستهدف به روسيا قوى المعارضة السورية المسلحة في حلب وإدلب وحمص، يصبان معاً لصالح مشروع إيران، المتربصة كالضبع، بما يتبقى من أطراف فريسة شبعت منها الكواسر، وعافتها نفوس الضواري الجائعة، وذلك على نحو ما ينطق به الحال في سورية والعراق، اللذين تراهما طهران امتداداً طبيعياً لها، أو قل مجرد جبهةٍ واحدةٍ بقوة الأمر الواقع.
غير أنه إذا كان صحيحاً أن الرياح لا تزال تهب بصورة مواتيةٍ لأشرعة السفينة الإيرانية حتى هذه اللحظة، فمن الصحيح أيضاً أن البحار في هذه المنطقة عميقة جداً، ومليئة بالحوّامات المائية المستترة، أي أن على إيران أن تفرغ، وحلفاؤها الموضوعيون، تماماً من مهمة القضاء على تنظيم الدولة، الذي سيظلّ كالذئب متربصاً على طريق حريرها إلى البحر المتوسط، وأن تقهر الثورة السورية التي لا سبيل إلى القضاء عليها في المدى المنظور، وأن تأمن جانب تركيا المتحفزة لاقتطاع حصتها على التخوم، بما يقطع صلة الوصل الإيرانية المشتهاة هذه، ناهيك عن ضرورة تفريغ خزان العراق من عنفه الدهري الفائض عن حدوده الجغرافية.
المصدر : العربي الجديد