يحتاج العالم قسطا من الزمن كي يستوعب حقيقة فوز شخص اسمه دونالد ترامب برئاسة أميركا، وعلى أوروبا تحديدا أن تتعايش مع الصدمة والدهشة والزلزال، وفق التعبيرات التي انطلقت في عواصمها بعد ظهور نتائج الثلاثاء الكبير.
إنه ترامب الذي استبعدت التقديرات فوزه أساسا، فتم التهاون مع نبرته المشحونة بالكراهية والعنصرية والتصعيد اللفظي والوعيد المنطلق في اتجاهات متعددة. وبدءا من الآن سيحرص دونالد ترامب على الظهور في ثوب آخر نسبيا، وبنبرة محسّنة بعض الشيء عن المعهود خلال حملته الانتخابية المديدة، لكن السؤال هو إن كانت التحسينات المتوقعة شكلية أم جوهرية.
كان واضحا كيف اتبعت حملة ترامب منهجية استعمال الفزاعات وتأجيج المشاعر وإذكاء المخاوف والتلاعب بالعواطف وتوظيف العنصرية، وتبيّن للجميع أن هذا الخطاب الشعبوي فائق الجدوى في زمن القلق والتحولات. لكن المرجح أن تبقى هذه الأدوات جميعا خارج البيت الأبيض بعد أن تم استعمالها قنطرة عبور إلى واشنطن العاصمة؛ دون أن يقضي ذلك بصلاحية توجهات كهذه في الحكم.
“كان واضحا كيف اتبعت حملة ترامب منهجية استعمال الفزاعات وتأجيج المشاعر وإذكاء المخاوف والتلاعب بالعواطف وتوظيف العنصرية، وتبيّن للجميع أن هذا الخطاب الشعبوي فائق الجدوى في زمن القلق والتحولات”
حمل الناخبون ترامب إلى البيت الأبيض يوم الثلاثاء الكبير، وإن تم هذا الدخول رسميا فإنّ فرضيات عرقلة تجربته لا يمكن استبعادها يوما ما، بمفعول فضائح مدوية أو ملفات مستترة مثلا، وقد يتم ذلك بأدوات قانونية وحملات إعلامية، فشخصية ترامب الغامضة وتشابكاته المريبة في عالم المال والأعمال، تجعله قابلا للخدش والكسر، أو هدفا مفضلا لمحاولات التشهير والإسقاط.
الجبهات المفتوحة
عبر خطاباته الانتخابية وتصريحاته المتشنجة، افتعل دونالد ترامب حزمة مشكلات لنفسه حتى قبل أن يبدأ عهده. مذهل هو عدد الجبهات التي فتحها سيد البيت الأبيض القادم في الداخل والجوار والعالم، فأشعل المخاوف من صعوده وبرز بوجه بغيض في بعض الإعلام العالمي، وهو ما فرض عليه إرسال تطمينات واضحة في خطاب النصر بعد إعلان فوزه.
لن يعجز ترامب على المستوى الداخلي عن مدّ جسور العلاقات العامة مع بعض ممثلي الأقليات بمن فيهم المسلمون، لكنّ التقاط الصور مع أفراد منهم لا يشي بحقيقة السياسات التي سيتبعها، ولن يكفي لطمأنة الذين أثار خطابه الانتخابي حنقهم ومخاوفهم. وغالبا ما ستتم مواصلة استحضار وجوه محسوبة على الأقليات للتغطية الشكلية على الواقع.
ورغم نجاح الحزب الجمهوري في السيطرة على مجلس النواب ومجلس الشيوخ؛ فإن ذلك لا يعني أن الحزب سيتماسك خلف رئيس مشكوك في قدراته القيادية وفي رشد قراراته وفي حقيقة توجهاته.
سيكون على ترامب الآن أن يمتثل لوعوده الكبرى والرمزية التي دفع بها في حملته الانتخابية، بما فيها تشييد جدار عازل على الحدود مع المكسيك تتكفّل الأخيرة بتمويله، فضلا عن سحب استثمارات صناعية أميركية منها. ومع ذلك؛ فلن تعجز إدارته عن إنجاز خطوات شكلية في هذا الصدد من قبيل بعض الترتيبات والتوافقات مع المكسيك مثلا متحاشية الذهاب إلى إجراءات مؤلمة للأخيرة.
أما العالم العربي، أو بعضه بصفة أخص، فعليه أن يضع يده على قلبه إن صدّق توجهات أعلن عنها ترامب خلال حملته الانتخابية، وإن بدت مفتقرة إلى الجدية. ومن المفارقات أنّ هذه التوجهات جاءت مسيئة للغاية بحق دول الخليج العربية، بينما حملت نبرة تراجع عن الاتفاق النووي الإيراني في الوقت ذاته. وما هو كفيل بطمأنة الأطراف نسبيا أنّ حملة خلط الأوراق في الخطاب الانتخابي الرامي لحشد الأصوات؛ لا تعمل في حلبة الواقعية السياسية التي ليس بوسعها كسر القواعد على المستوى الدولي.
صعود في زمن التحولات
ثمة خيط ناظم لتطورات كبرى يشهدها العالم مثل صعود ترامب وقرار الانفصال البريطاني عن أوروبا الموحدة. ويتلازم هذا المنحى مع ظواهر التحوّل الجارفة في العالم، ومنها التطورات العربية والإسلامية بكل ما فيها من حروب وصراعات وحرائق، والشعور المتعاظم بتضخّم الأزمات والفواجع التي تبدو في زمن الزمن الصورة والمشهد مرئية وأكثر قربا من وقت مضى.
بالوسع اشتقاق علاقة بين حالة الغطرسة والحدّة التي تميّز بها ترامب خلال صعوده الانتخابي من جانب، وشعار “إعادة المجد لأميركا” الذي رفعه خلال حملته من جانب آخر. قد لا يلحظ بعضهم أنّ المجد الذي نادى به ترامب هو حالة انطباعية غير محددة، ومن الصعب على قطاعات واسعة من الجمهور أن تتوقع نجاح امرأة تحديدا في انتزاع هذا المجد أو تلك الهيبة المفقودة. وحتى الفضائح التي طاردت ترامب فقد يكون لها مفعول عكسي في بعض الشرائح، كأن تكون عززت صورته الخشنة والذكورية التي تلائم نمط القيادة الجسورة، وهو منحى معروف في بعض الحالات مثل نموذج سيلفيو برلسكوني في إيطاليا مثلا.
مفارقات المشهد
من مفارقات المشهد الانتخابي الأميركي أن هيلاري كلينتون التي راهنت في خطابها على الفئات العمالية والفقيرة والأقليات، بدت عمليا ملتصقة بالنخبة التقليدية الحاكمة وتحظى بعوائد الثراء المليونية، بينما كسب ترامب شرائح مستاءة من المستوى السياسي وقلقة على مستقبلها، علاوة على الفئات المتوسطة، وهذا رغم ثرائه الفاحش، وعليه الآن أن يعمل من داخل طبقة سياسية وإدارية في واشنطن العاصمة كان قد نعتها بالفساد.
وإن وقفت وسائل الإعلام الكبرى في الولايات المتحدة في الخندق المقابل لترامب وبدت أقرب إلى كلينتون؛ فإن المفارقة هي أن الصناعة الإعلامية ضالعة بأشكال متعددة في تغذية بيئة حاضنة لصعوده. لم يتوقف الأمر عند حدود تقاليد الصحافة والإعلام التي تتضمن تضخيم المخاوف وتعظيم القلق؛ بل تجاوزه إلى مضامين في وسائل الإعلام الأميركية تقوم على الشحن والتعبئة في اتجاهات الإسلاموفوبيا وتغذية المخاوف من المسلمين بصفة خاصة، وهي ورقة اتكأت عليها حملة ترامب الانتخابية بوضوح طمعا في تحسين مكاسب الاقتراع يوم الثلاثاء الكبير.
وقد جاء فوز دونالد ترامب بمثابة ضربة موجعة لقطاع الاستطلاعات وسبر الآراء، فساد الانطباع بعد فرز الأصوات أن هذا القطاع استغرق في منهجيات مشكوك بها علميا أو قد يكون بعضه ضالعا في تحيّزات ومحاولات توجيه ضمنية للناخبين سعيا إلى ترجيح حظوظ كلينتون.
على أنّ معضلة الاستطلاعات التي منحت هيلاري أفضلية؛ كان لها مفعول مضلل في الواقع، وربما طمأنت قطاعات من الناخبين بأنّ فوز كلينتون مضمون بما قد يكون حدّ من إقبال مؤيديها على التصويت، أو شجّع التراخي الجماهيري والمدني مع خصمها المتشنج الذي بدت احتمالات فوزه ضئيلة.
وما يزيد من المفعول المضلل للاستطلاعات، هو منحى الاستخفاف السياسي والإعلامي بشخصية ترامب ذاته والتهوين من فرص صعوده، بما حال دون نضوج اعتراضات أخلافية وحقوقية على خط ترامب وخطاباته المشحونة بنبرة تفرقة ومسحة عنصرية.
الحقيقة هي أنّ احتمال فوز ترامب لم تتم مواجهته بحملات جماهيرية ومدنية فعالة رغم كل ما صدر عنه من تفوّهات جسيمة. ومن الواضح أنّ التصويت يوم الاقتراع أعان بعض المجتمع على دعم نهج ترامب المتشنج الذي تتحاشى نسبة من الناخبين الإفصاح عنه في أوساطهم الاجتماعية.
في كل الأحوال؛ كان بوسع هيلاري أن تكون رئيسة لأميركا مع مواصلة المنحى البارع في العلاقات العامة وارتداء الأقنعة السياسية التقليدية، لكن ترامب بكل ما بدر منه حتى الآن لا يسعه اليوم إلا أن يكون رئيسا لبعض الأميركيين وليس كلهم. إنها وصفة بائسة للغاية للمشروع الأميركي في الداخل ورسالة مسيئة للذات تتوجه بها واشنطن إلى العالم، إن لم تكن مؤشرا على تحول دولي.
نهاية حقبة أوباما
مع غروب شمس الثلاثاء الكبير؛ انتهت حملة علاقات عامة كبرى استغرقت ثمانية أعوام، طمس خلالها المتحدث البارع باراك أوباما أثر جورج بوش الابن في العالم. ويأتي دونالد ترامب الآن دون أن يجرؤ أحد على منحه جائزة نوبل للسلام كالتي حظي به سلفه مع مطلع ولايته الأولى.
ومع استعداد ترامب لدخول المكتب البيضاوي تكون الشقوق المعنوية بين أميركا وأجزاء من العالم قد تفاقمت، وتلوح في الأفق صدوع مرتقبة بين واشنطن وأوروبا الموحدة التي سترى على الجانب الآخر من الأطلسي أميركا أخرى غير التي ترغب في رؤيتها.
غني عن القول أنّ هيلاري، كما زوجها من قبل، تحظى بتعاطف واسع في أوروبا، وقد انطفأ الأمل بأن تكون هي شريك أوروبا في المجتمع الدولي. لكنهم في روسيا يتحدثون بحماسة عن الرئيس القادم في واشنطن مع نبرة شيطنة واضحة لأوباما ووزيرة خارجيته التي عجزت عن كسب السباق الرئاسي، ومثل ذلك يمكن توقعه في الصين.
ومن ارتدادات ما جرى بعد فرز الأصوات الأميركية أنّ صعود ترامب على رأس كبرى دول العالم يأتي منسجما مع إزاحات شعبوية ويمينية متطرفة على المستوى الأوروبي، في مستوى الخطاب الانتخابي على الأقل. وقد يحصد مرشحو أقصى اليمين الأوروبي مكاسب ملموسة في الجولات الانتخابية المقبلة بمن فيهم مارين لوبن التي تنافس على رئاسة فرنسا السنة المقبلة.
يبقى أن هذا اللون الجديد في البيت الأبيض يفرض تحديات، معنوية على الأقل، بعد كل ما صدر من ترامب عن المسلمين، كما يفرض على العالم الإسلامي أن يرسل إشارات تحذير قوية إلى واشنطن، قبل أن تباشر إدارته التفكير بتطبيق وعيده بالتضييق على المسلمين. ومن المتوقع تحميل ترامب ذاته قسطه من المسؤولية عن أي اعتداءات أو وقائع تفرقة تلحق بالمسلمين والأقليات في بلاده.
سيدفع فوز ترامب بموجة ضغوط معنوية على القيادة الأميركية داخليا وأوروبيا وعالميا، وستكون تصرفات واشنطن تحت المجهر، بما يجعل فوز ترامب فرصة لضغط عالمي بدافع أخلاقي على الولايات المتحدة. لكن هذا الضغط وإن كان مفيدا إعلاميا ومحفزا على مراجعات فكرية وثقافية؛ فلن يعني الكثير على صعيد الواقعية السياسية التي قد تنزلق بدورها خلف توجهات يمينية.
ثمة تأثير لا يمكن إغفاله، ويتمثل بأن يُطلب من المتشدد أو “الشرير” عند دخول الرواق السياسي الرسمي أن يبعث برسائل الطمأنة وأن يتلطّف بالأمر إن أمسك بالزمام. على أنّ المعضلة الجوهرية ليست في فوز ترامب بل في مجرد صعوده إلى المنافسة الرئاسية ابتداء، وبدعم من الحزب الجمهوري، ثم حصده عشرات الملايين من الأصوات. وقد يرى بعضهم في ذلك مؤشرا على فرص الحُمق السياسي والتشنّج في الإمساك بزمام الديمقراطيات الغربية، كما تجلّى قبل شهور في قرار خروج بريطانيا من أوروبا الموحدة أيضا بعد استفتاء شعبي.
سيبقى ترامب شخصية يصعب تقدير مسارها، أو تخمين المدى الذي يمكن أن يذهب إليه. ومن غير الواضح إن كان سينجح في إدارة دولة عظمى لها إستراتيجياتها المستقرة وأولوياتها وتقاليدها ومؤسساتها وتجاذباتها.
لكن المؤكد أن صعود هذا الوجه الجديد إلى البيت الأبيض هو علامة فارقة في تاريخ الولايات المتحدةغرد النص عبر تويتر وتعبير عن تفاعلات جرت تحت السطح ووراء المشهد الاجتماعي والاقتصادي في بلد بهذا الحجم وهذه الأهمية، علاوة على أنه من تفاعلات ضمور الحضور الأميركي في العالم، والذي قد يكون فوز ترامب ذاته برهانا عليه وتفاقما له.
المصدر : الجزيرة نت