مقالات

يحيى الكبيسي – ترامب: تكريس للواقعية الأمريكية أم تجاوزها؟

بعد المرحلة الصادمة والسريعة، التي بصمت سنتي 2002 و2008، حاولت الولايات المتحدة الامريكية العودة إلى تراث الواقعية الامريكي التقليدي في السياسة الخارجية، فلم تعد أحلام اليمين المحافظ الثورية عن «شرق أوسط جديد» قابلة للتحقيق، وهي احلام بشرت بها كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية في تموز/يوليو 2006، وقد لخصتها في نظرية «الفوضى الخلاقة، التي اقتبستها من مجال الفنون إلى مجال السياسة، في محاوله لتوصيف ما كان يجري في الشرق الأوسط بعد احتلال العراق (الواشنطن بوست في 21/ 7/ 2006).

لقد تخلت كوندي، كما كان يسميها جورج بوش، عن فكرة المزاوجة بين «القوة والمبدأ، الواقعية والمثالية»، أو «قوتنا وقيمنا»، كما كانت تقول عند إطلاقها مصطلح «الفوضى الخلاقة»، وذلك بعد الاخفاق الأمريكي في العراق، والذي بني على فكرة أن بناء دول ديمقراطية في الشرق الأوسط أو في العراق هو مكون ملحّ للمصلحة القومية الامريكية، واقترحت العودة إلى تراث «الواقعية» الامريكية التقليدي في السياسة الخارجية، وهو يتمحور حول التركيز على المصلحة والأمن القومي. (مقالتها: إعادة التفكير في المصلحة القومية، الواقعية الأمريكية لعالم جديد. مجلة الشؤون الخارجية في تموز/ يوليو 2008).

في سياق هذه الواقعية، وجدنا كونداليزا رايس نفسها، تعود في العام 2012 للتأكيد على ضرورة «إبقاء الشرق الأوسط متماسكا»، وأن أي محاولة لتغييره ستكون في غير صالح الولايات المتحدة الامريكية. وقد رأت ان ما يجري في سوريا ربما يكون «المشهد الأخير في قصة تفكك الشرق الأوسط كما نعرفه، وأن الفرصة لإبقاء المنطقة متماسكة وإعادة بنائها على أسس أكثر ثباتا من التسامح، والحرية، والاستقرار الديمقراطي في نهاية المطاف تسقط من أيدينا» (مقالها في الواشنطن بوست في 24/ 11/ 2012).
وقد وجدنا هذه العودة نحو «الواقعية» حاضرة أيضا بقوة في استراتيجية الامن القومي الأمريكي التي أعلنها الرئيس أوباما في مايو/ أيار 2010، وفيها تشديد على ضرورة أن تعمل الولايات المتحدة على «صياغة نظام عالمي جديد يعتمد على مؤسسات دولية تعكس روح القرن الواحد والعشرين بدون التأكيد على عظمة الولايات المتحدة». وقد تكرر هذا المطلب في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الصادرة في شباط/فبراير 2015، فيما يتعلق بالشرق الأوسط، وفيها تأكيد على أن التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة تتطلب «الصبر الاستراتيجي والمثابرة»، وفيها اعتراف واضح بأن «الكثير من المشاكل لا يمكن حلها عن طريق القوة العسكرية.

وفيما يتعلق بمشكلة داعش، كان ثمة التزام في قيادة التحالف الدولي لإضعاف هذا التنظيم وهزيمته من جهة، و العمل مع الحكومة العراقية من اجل حكم أكثر انفتاحا وشمولية من جهة اخرى؛ فضلا عن تدريب المعارضة السورية وتسليحها لمواجهة الجماعات المتطرفة ونظام بشار الأسد على السواء، كما تضمنت هذه الاستراتيجية الدعوة الى دعم أمن دول الخليج بوصفهم شركاء للولايات المتحدة الامريكية.

اليوم بعد الفوز غير المتوقع لدونالد ترامب، وتحول الرئيس الجمهوري من مجرد إمكانية، إلى واقع حقيقي، تزداد التكهنات بشأن السياسة الخارجية التي سيعتمدها الرئيس الجديد فيما يتعلق بالشرق الأوسط. فالتصريحات التي أطلقها في مسيرة حملته الانتخابية، بداية من نقده اللاذع لسياسة أوباما في المنطقة، مرورا برفض الاحتلال الأمريكي للعراق، وإشاراته غير الواضحة بشأن سوريا، وصولا إلى موقفه غير الودي من دول الخليج العربي، كل هذا يجعل المراقب في حيرة حقيقية.

بالتأكيد لا يمكن التعامل مع التصريحات الانتخابية على أنها برامج نهائية، سيعمد الرئيس الجديد إلى «تطبيقها» عمليا، لكن، في الوقت نفسه، لا يمكن التغاضي عن الدور الذي يمكن أن يلعبه الرئيس الامريكي في تحديد مسارات السياسة الخارجية، مهما تحدثنا عن سطوة المؤسسات! وتجربتا رئاسة رونالد ريغان القوي، ورئاسة جورج بوش الابن الضعيف نموذجان يؤكدان هذه الحقيقة.

من الواضح أن ترامب لا يقدم لنا منظومة متسقة، ومتكاملة، يمكن من خلالها تحليل السياسة الخارجية التي يرتئيها للشرق الأوسط. فمراجعة تصريحاته طوال الحملة الانتخابية، تكشف أن مواقفه لا يتسق بعضها مع بعض ؛ فموقفه الحاد من «الإسلام الراديكالي» على سبيل المثال، لا يمكن له أن يتسق مع دعواته ضد «المسلمين» عموما، واللاجئين منهم بشكل خاص! وايضا موقفه من سوريا تحت نظام الأسد المدعوم إيرانيا والذي لا يتسق مع اتهامه لهيلاري كلينتون وإدارة أوباما بأنها سمحت لإيران بتوسيع نفوذها! أو الحديث عن استخدام «قوة هائلة» ضد الأسد لا يتسق ايضا مع دعواته بسحب القوات الأمريكية من سوريا، وتهديداته لتنظيم الدولة وصولا إلى حديثه عن خطته الخاصة للقضاء عليه، أو حديثه حول عدم تدخل الولايات المتحدة في الصراعات الدولية إلا عندما يكون التهديد مباشرا ضدها!

أما فيما يتعلق بموقفه من «استقرار» الدول التسلطية والديكتاتورية فيبدو ساذجا إلى حد بعيد، فهذه الأنظمة لم تنتج في النهاية سوى دول فاشلة، وسياساتها أسهمت بشكل مباشر حينا، وغير مباشر حينا آخر، في إنتاج التطرف في المنطقة. والثورات الشعبية التي عرفت بالربيع العربي كانت نتيجة لعوامل ذاتية، وليست نتاجا لفاعل خارجي.

لقد ظلت « الواقعية « الامريكية في السياسة الخارجية، على الأقل منذ الحرب العالمية الثانية، تنطلق من مبدأي المصلحة والأمن القومي، وبسبب من وجود اسرائيل في منطقة الشرق الأوسط، أصبح أمن اسرائيل، مبدأ حاكما مضافا. ولم تكن دعوات الدمقرطة وحقوق الإنسان، سوى واحد من الأدوات المستخدمة سياسيا في إطار المبدأين الاولين. خصوصا في ظل أيديولوجيا غربية واسعة الانتشار، ترى ان العوامل الثقافية في هذه المنطقة لها الأولوية على العوامل الاجتماعية والاقتصادية! وبالتالي ليس من جديد في تصريحات ترامب سوى في إعلانه هذه الحقيقة جهارا.

لقد كانت حرب العراق نتيجة مباشرة لسيطرة اليمين المحافظ على إدارة الرئيس جورج بوش، وقد حدثت في سياق استثنائي تماما؛ في سياق آخر عرفت الولايات المتحدة الأمريكية بدعمها لنظام حسني مبارك، مع ذلك لم تكن لها قدرة للوقوف بمواجهة ثورة يناير 2011، في الوقت نفسه لم تبد موقفا مضادا من انقلاب السيسي! ولما كانت الثورة الليبية فعلا محليا بحتا، فان الدعم الاوروبي ـ الامريكي لها جاء في سياق خاص يتعلق طبيعة العلاقة مع نظام القذافي من جهة، وفي سياق أخلاقي/ انساني فرضته تداعيات الحرب الاهلية في رواندا من جهة ثانية.

أما فيما يتعلق بالموقف اليوم من العربية السعودية، ودول الخليج الأخرى، فهو يرتبط، على الأغلب، بطبيعة الخطاب المتصاعد في الولايات المتحدة بهذا الشأن، والذي أنتج قانون جاستا، وبالتالي لا أعتقد أنه يمثل موقفا خاصا بترامب ذاته، لذلك يجب الانتظار لمعرفة التطورات التي يمكن ان تحصل في هذا السياق.

في النهاية من المبكر تماما الحديث عن سياسة «استثنائية «متعلقة بالشرق الاوسط، سوف يعتمدها ترامب، الرئيس الأمريكي الجديد، حين يدخل البيت الأبيض، بعد يناير 2017. ولكن السؤال الذي يبقى غائبا، لماذا يجب أن تظل سياسات دول الشرق الأوسط مجرد استجابة لهذه السياسات، ولا تكون فعلا مؤثرا في طبيعتها؟

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى