في القرن الماضي تمددت حالتان بشكل متوازي في عالمنا العربي وهما الانتماء القومي والانتماء الإسلامي وهاتان الحالتان متناقضتان تماماً وهذا التناقض حتم الاصطدام بينهما على المستوى الفكري وعلى المستوى العسكري في بعض الأحيان، وقد انتشرت أسئلة مهمة في المجتمعات التي أصابتها حمى التعصب لتلك الانتماءات على سبيل المثال هل الانتماء الإسلامي أقوى من الإنتماء العربي؟ وهل يسبقه؟ أم يتكامل معه؟ وأيهما أولى؟ وقد كانت الأجوبة تأتي دائماً بين طرفي الإفراط والتفريط، فإما إفراط في التعصب لكلا الحالتين أو تفريط بهما معاً أو بإحداهما.
في اعتقادي أننا حتى اللحظة لم نجد الإجابة على تلك الأسئلة برغم كل المفكرين الذين حاولوا التصدي لهذه التساؤلات من كلا الفريقين، والسبب الرئيسي الذي من أجله لم تتم الإجابة على هذه التساؤلات هو أن العقلية الفكرية العربية لم تصل بعد إلى مرحلة النضوج قياساً على الميزان الذي وضعه عالم الإجتماع (أوغست كونت) والذي قسم تطور العقلي البشري إلى ثلاثة أقسام : – مرحلة اللاهوتية – مرحلة الميتافيزيقية – المرحلة الوضعية أو العلمية، فخلال القرن الماضي لم تتخطى معظم الكتابات من كلا الفريقين مرحلة الميتافيزيقية.
إن الفترة التي نشأ بها كونت هي مرحلة الفوضى التي أعقبت الثورة الفرنسية والتي مارس العامة خلالها كل أنواع الفجور والانحلال الأخلاقي وذلك نكاية برجال الدين الذين أذاقوا الطبقات الفقيرة كل أنواع الإذلال والمهانة فكان ذلك تعبيراً عن ردة فعل مجتمعي عبر هؤلاء من خلالها عن رفضهم للنص الديني الذي يمثله رجال الدين والذي أدى ظلمهم لتكون الفكر الإلحادي في أوروبا فهو على عكس من عاصروه من مفكرين (أمثال ماركس وفويرباخ ونيتشه ) كان يقول: “إذا كانت الأصولية المسيحية قد انهارت فلا ينبغي أن تنهار المسيحية” وذلك لأن الدين هو ما يمنح الإنسان إنتماءه القيمي الإنساني لذلك كان يدعو إلى “دين البشرية” كما ذكر الباحث الإنكليزي “أندرو فيرنك” في كتابه “أوغست كونت ودين البشرية”.
الثورة السورية من حيث الأهمية خصوصاً في عالمنا الإسلامي مشابهة للثورة الفرنسية التي بدلت وجه أوروبا من حيث طرح تلك التساؤلات العميقة وفتح باب النقاشات الدينية والتي كانت محرمة وبدأت بمناقشة المسلمات مناقشة عقلية وهو ما يعتبر قياساً بالمراحل السابقة تطوراً غير مسبوق على الصعيد الفكري من حيث الكم والنوع، ولذلك أعتقد أن مرحلة الفوضى التي نعيشها مهما اتسمت بالقبح والانحدار فلا بد إلا أن تصل بنهاية الأمر إلى بر الأمان لأن السكون المجتمعي يساوي الموت السريري والثورة حركت المجتمع بحيث قلبت عاليه أسفله وبالتالي سنصل بعد تجريب كل أنماط التفكير اللاهوتي والميتافيزيقي إلى مرحلة تحكيم العقل والتي تعتبر أولى خطوات الضبط المجتمعي الذي سيصل بنا إلى عصر النهوض والتطور.
في المرحلة اللاحقة سيعلو صوت العقل أكثر فأكثر وسيبدأ ذات المجتمع الذي رفض كل أشكال الوصاية بالبحث عن العقلاء والحكماء المشهورين بسداد أرائهم وسيلجأ للمفكرين الذين حللوا وفككوا بالمرحلة السابقة كل أباطيل دعاة القومية الزائفة وبنفس الوقت أباطيل أدعياء الدين من الذين يظنون أنهم وحدهم من يملك الحقيقة وأن أفعالهم هي الصواب وأفعال غيرهم هي محض افتراء وضلال، في تلك المرحلة سيأتي دور المرجعيات المجتمعية والذين سيتحلق حولهم العامة مرة أخرى ويتبعونهم وبالقدر الذي يكون فيه هؤلاء حكماء ستتقلص الفوضى إلى أن تختفي بالمطلق.
إن قيام الأمم وانبعاثها لا يقاس أبداً بعمر الأنظمة أو الثورات بل بتراكم المعرفة والتجربة هكذا علمنا التاريخ، وبعد أن تهدأ هذه الحرب الشرسة التي عرت الجميع واجتاحت المجتمع كالإعصار وتأخذ معها كل رواسب الفكر المنحرف الذي سكن في رؤوس القوم ردحاً من الزمن، بعد ذلك سيبدأ عصر جديد لأن العقول عادت للمحجة البيضاء مرة أخرى بعد أن تخلصت من كل ما علق بها عبر عقود طويلة من الفكر الأسود الذي أغرقنا ببحور من الأسئلة لا تسمن ولا تغني من جوع.
المصدر : وطن اف ام