مقالات

بكر صدقي – حلب: عودة الرعب

حتى الأمم المتحدة أكدت حصول إعدامات ميدانية في المناطق التي اجتاحتها ميليشيات النظام والميليشيات الحليفة التابعة لإيران. إعدامات شملت عائلات كاملة من المدنيين بأطفالها ونسائها ورجالها ومسنيها. حتى الأمم المتحدة التي سبق ومولت جمعية رامي مخلوف «الخيرية» المشرفة على تشكيلات الشبيحة الموغلة في الدم السوري، لم تتحمل ما يقوم به الغزاة من جرائم فظيعة كحرق الأحياء والدوس على رؤوس أسرى مقيّدين (ممن نزحوا حديثاً) وغيرها من الشناعات. هذا يذكرنا بفظاعات ارتكبتها الوحدات الخاصة في مدينة حماة 1982، وسرايا الدفاع في مهاجع سجن تدمر في 1980.

هو درس إذن، يريد النظام تلقينه لمن سيخرج حياً من المجزرة، وكذا لـ»حلب الغربية» التي استطاع بعض سكانها أن يحتفلوا بـ»النصر»، وغرق البقية في صمت الرعب. فهم يعرفون، في قرارة أنفسهم، ماذا يعني «انتصار النظام». يعرفونه من تجاربهم الشخصية منذ العام 1980 حين استباحت الفرقة الثالثة مدينة حلب ونكلت بسكانها، وسحلت الجثث في شوارعها، واعتقلت أجهزة الرعب الآلاف من شبابها، جلهم لم يعودوا أبداً. يسود الرعب الآن في كل مكان من حلب، ومن سوريا، بعدما تذوق ملايين السوريين طعم الحرية، وأهم وجوهها التحرر من الرعب، أو ما أطلق عليه «كسر حاجز الخوف». يتساوى في ذلك أولئك المحاصرون، إلى هذه اللحظة، في بضعة أحياء لم تجتحها الهمجية بعد، وسكان حلب الغربية المحتلة أصلاً من النظام.

تتحدث أرقام تقريبية عن نحو ثمانين ألف مدني فيما تبقى من حلب التي كانت محررة: من السكري جنوباً إلى الأنصاري والمشهد وصلاح الدين فسيف الدولة فالإذاعة. أي في بضعة كيلو مترات مربعة، حيث تزدحم الشقق القابلة للسكن بعشرات الأفراد لكل شقة، بلا طعام أو دواء، وفوقها رعب الانتظار. انتظار دخول البرابرة. عشتُ ما يشبه ذلك في زمن مضى، أعرف هذا الشعور جيداً.

في شهر آذار من العام 1986، في جناح الأمن السياسي والأمن العسكري في سجن حلب المركزي، قام اثنان من الشباب المتهمين بالانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين بقتل أحد السجانين المناوبين، واتخذا المعتقلين السياسيين رهائن يفاوضان عليهم للفرار من السجن.

أصل الحكاية أن هذين المعتقلين كانا ممن قدموا اعترافات وتسببوا بأذى كبير لتنظيمهم، مقابل وعود من جهاز المخابرات بإطلاق سراحهم.

مضت سنوات، والوعود تتكرر لكنها تبقى وعوداً. وفي غضون ذلك كان الرجلان «مدللين» بمعايير السجون وبالقياس إلى مصائر متهمي الإخوان المسلمين. ومن ذلك أن أحدهما، ومهنته الأصلية خيّاط، كان يملك أدوات الخياطة، وقيل إنه كان يفصِّل ملابس لضباط فرع الأمن العسكري الذي يحتجزهما. وكان عناصر المفرزة يُخرجونهما ليلاً ليسهروا معاً في غرفة إدارة الجناح. وكان بحوزتهما جهاز راديو ينقل إليهما أخبار منظمة الجهاد الإسلامي في لبنان التي ستلهمهما عملياتها تخطيط عملية الفرار. حين مضى يوم الثامن من آذار، ذكرى ثورة البعث، ولم يطلق سراحهما كما وعدهما الفرع على عادته، قررا التحرك. في ليلة العاشر من آذار استفردا بأحد عناصر المفرزة وطعناه بشفرة مقص الخياطة الذي كان بحوزتهما، ثم استوليا على مسدسه وقتلاه برصاصة منها. وهكذا سيطرا على الجناح الذي كانت مهاجع الأمن السياسي فيه تضم معتقلين غالبيتهم من الشيوعيين.

كان أحمد المقرش هو قائد العملية والناطق باسمها. بدأ جهاده بتوعد الشيوعيين بالقتل. فاختبأنا، شيوعيين وقوميين وإخواناً، في حمامات المهاجع، وهي معزولة عن سائر مساحة المهجع بجدار وباب حديدي. أمضينا الليلة حتى الصباح في تلك المساحة الضيقة، ونحن نسمع المقرش يهدد ويتوعد، ثم يفاوض قوات الفرع التي جاءت لـ»التعامل» مع الوضع، من الكوات المزودة بقضبان حديدية، المطلة على مدخل السجن. هدد بقتل الرهائن ـ أي نحن المعتقلين ـ ما لم يستجيبوا لطلباته: طائرة هليكوبتر تنقلهم إلى مكان آمن! وطلبات أخرى أقل أهمية. مع بزوغ الفجر اقتحمت قوات الأمن العسكري الجناح بالقوة وقتلت الرجلين، غير عابئة طبعاً بمصير الرهائن. هكذا، وفقط هكذا، استعدنا الشعور بالأمان داخل سجننا المديد!

هو الرعب، إذن، ما عشناه في تلك الليلة الطويلة. هو نفسه اليوم مع اختلاف بسيط: المدنيون في الأحياء القليلة المتبقية من حلب المحررة، ليسوا رهينة أحد. لم تهدد الفصائل المسلحة بقتلهم لتأمين خروجهم. ومن المحتمل أن الاتفاق الذي تم، بوساطة تركية، بين روسيا وتلك الفصائل، على خروج المدنيين والمسلحين، لن ينفذ، بسبب مقاومة النظام، وإيران، لحليفهما الروسي. فميليشيا حركة النجباء الشيعية العراقية التي يقال إنها المسؤولة عن الإعدامات الميدانية، لم تشبع من الدم.

والنظام يريده نصراً «كاسحاً» ليس على الفصائل المسلحة فقط، بل أهم من ذلك على روح التمرد التي أطلقها المارد الشعبي قبل أكثر من خمس سنوات.. على فكرة الحرية التي تذوقها السوريون ولا يمكن إعادتهم إلى بيت الطاعة إلا بمزيد من الدم، بقتل العزّل بدم بارد، بحرقهم أحياء. هذه هي الدولة الأسدية التي تواطأ المجتمع الدولي على تثبيتها على رقاب السوريين، برغم كل هزالها وهوانها أمام الاحتلالين الروسي والإيراني. الفارق الآخر المهم بين رهائن الأمس ورهائن حلب اليوم، أن انتظار المقتلة يتم اليوم تحت أنظار العالم أجمع، مقابل عملية أحمد مقرش التي حدثت وأخمدت في الظل، ولم يسمع بها أحد تقريباً. يمتلئ موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» برسائل وداع، بالصوت والصورة، من المحاصرين في تلك الأحياء. تبدأ معظمها بعبارة «ربما تكون هذه آخر رسالة نستطيع توجيهها إليكم». كنا، في العام 2012، نتجه من الأحياء الغربية إلى أحياء هنانو وبستان القصر والشعار والصاخور لنشارك في المظاهرات، بلا خوف من أجهزة المخابرات والشبيحة الذين سبق وطردوا منها. كنا نشعر بالحرية حين ننتقل إلى هناك، ويسود جو احتفالي في المظاهرات. غناء ورقص وشعب يريد إسقاط النظام. حفظت تلك الأحياء كرامتنا وحريتنا.

ثم احتل الجهاديون الذين تصدروا المشهد الأرض، وطائرات النظام السماء. تقلصت مساحة الحرية في ظل سلطتهم بصورة مطردة. اليوم عاد الرعب إلى تلك الأحياء. الرعب الذي يراد تعميمه على كل سوريا. اليوم هناك جثث في الشوارع وأخرى تحت الأنقاض لا يستطيع أحد أن يفعل شيئاً بشأنها. نشعر، في منافينا، بالذنب. لأننا في أمان. نأكل ونشرب. مطمئنين على أطفالنا. عاجزين عن فعل شيء يمنع استكمال المجزرة الأسدية ـ الإيرانية ـ الروسية بحق أهلنا.

لنا عزاء واحد، ميتافيزيقي ربما. هو أن النظام الهزيل المحتمي باحتلالين ومرتزقة طائفيين من مختلف البلدان، سوف يغص بانتصاره. فهو غير قادر على هضم أي انتصار. ها هم بضع مئات من مجرمي داعش يطردون شبيحته من تدمر، ويستولون على كميات من الأسلحة والذخائر مما تركه شبيحة الأسد وراءهم.

اليوم رعبٌ، أما الغد فشأن آخر.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى