يرى كثيرون السياسة الإيرانية في منطقتنا طائفية، ترتكز إلى الأسس المذهبية الشيعية لنظام الحكم في طهران. ليس دقيقاً اختزال السياسة الخارجية الإيرانية بالبعد الطائفي، إذ إنها تقوم على عدة عوامل، منها المصالح الحيوية التي تُقَارب بسياسة براغماتية، أملاها تحوّل الثورة إلى دولةٍ في إيران. كذلك، هناك بُعد “عالم ثالثي” يتمظهر ضمن الخطاب الإيراني في عبارات “نصرة المستضعفين” و”مواجهة الاستكبار”، ويرتبط هذا البعد بعداء الثورة الإيرانية الإمبريالية الغربية، وهو عداءٌ قديم ومتجذّر إيرانياً، يمنح الإيرانيين فرصة نسج تحالفاتٍ مع دولٍ معادية للولايات المتحدة، أو لا تدور في فلكها، كما يجعل علاقتها غير جيدة بحكمٍ “شيعي” في أذربيجان، يوالي الولايات المتحدة. لكن هذا كله لا ينفي بروز البعد الطائفي في السياسة الايرانية داخل المنطقة العربية بالذات، ولهذا البروز أسبابه.
يتمسك الخطاب الرسمي في إيران بالتعبيرات الإسلامية الجامعة، ويُكثر من الحديث عن وحدة الأمة، والتآمر الأميركي والغربي على هذه الوحدة، ولا يتبنى أي خطابٍ عدائيٍّ تجاه الطوائف الإسلامية الأخرى. لا يعود هذا إلى أن المناهل الفقهية لحكام إيران أكثر تسامحاً وانفتاحاً، لكنه يعود، بشكل أساسي، إلى الانتماء إلى أقليةٍ مذهبيةٍ بين المسلمين، ما يجعل ميلها إلى التصادم أقل بسبب حجمها.
ومن هنا، يمكن فهم نوعية الطائفية الشيعية سياسياً التي يمكن تصنيفها بأنها طائفيةٌ ناعمة في الغالب، إذ هي طائفية من حيث بنيتها المذهبية في المجال السياسي، وتعريفها للذات والآخر مذهبياً، واستخدام الرموز المذهبية في إيجاد التمايز بين الذات والآخر، حفاظاً على هويةٍ يُخشى على وجودها في بحر الأكثرية السنية، غير أنها لا تخلو من شعارات التعايش والوحدة، ونبذ الصدام والفتنة.
لم ينجح الإصرار الإيراني على الوحدة الإسلامية في التخفيف من الاحتقان الطائفي، ويكمن أحد الأسباب في الطائفية الشيعية الناعمة، وهي جزءٌ من بنية النظام الإيراني، ولأن الإسلام لا يُفسَّر إلا بالمذاهب، فلم يكن ممكناً للإيرانيين بناء نظام إسلامي من دون انغراسه في تفسيرٍ شيعي، ومن دون أن يُحدِث هذا التفسير (ولاية الفقيه) انقساماً بين الشيعة أنفسهم حوله.
تلعب البنية الشيعية للنظام دوراً في التمايز الإيراني عن المحيط. وعلى الرغم من شعارات الوحدة الإسلامية، المُسْتَبْطِنَة توقاً إلى وحدة الحركيين الإسلاميين من السنة والشيعة، تفاقم الصراع بين إيران والحركات الإسلامية السنية، على الرغم من التشابه الأيديولوجي بين إيران و”الإخوان المسلمين” ومتفرّعاتهم.
مرّت العلاقة بين إيران و”الإخوان” بمد وجزر، لكن إيران ظلت تسعى وترغب بحكم إسلامي يشابه نظامها في الوطن العربي، يقوده “الإخوان”. وعلى هذا الأساس، استبشرت بدايةً بالربيع العربي، واعتبرته “صحوة إسلامية”، واستمراراً للثورة الإيرانية. لكن “الإخوان المسلمين” لم ينجحوا في الخروج من الهوية المذهبية، على الرغم من دعوات بعض رموزهم إلى التقريب بين السنة والشيعة في مراحل مختلفة، بفعل استفزاز الهوية الشيعية الإيرانية لهم، خصوصاً بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وصعود السلفية في أوساطهم، والتي تحمل موقفاً سلبياً من الشيعة، إضافة إلى ارتباطهم بالمنظومة الخليجية، وانسياقهم مع بعض الإعلام الخليجي في دعايته الطائفية، وقراءته أحداث المنطقة والدور الإيراني، ورهانهم على التحالف مع أميركا بعد الربيع العربي، وكل هذه عوامل أدت إلى مواجهة “الإخوان” إيران، وظهور الطائفية الكامنة عندهم، ومزايدتهم على غيرهم في إشعال الفتن الطائفية. دفَع هذا الدور الإيراني إلى الاصطباغ بصبغةٍ شيعيةٍ أكثر وضوحاً في السنوات الأخيرة.
تعرّضت فكرة تصدير الثورة لتغيرات عديدة، أهمها انتقال إيران من الثورة إلى الدولة، وانتصار الجناح البراغماتي في النظام، بقيادة المرشد الحالي علي خامنئي، والرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني، على الجناح الراديكالي، بزعامة آية الله منتظري، في نهاية الثمانينيات. اكتست بعدها سياسات تصدير الثورة طابعاً براغماتياً، فأصبحت دفاعيةً أكثر، لمواجهة سعي أميركا إلى إطاحة النظام الإيراني، وصارت مُرَكَّزةً في مناطق مهمة استراتيجياً لإيران، مثل العراق، فيما تم إهمال العلاقة مع الحركات الشيعية في دول الخليج، ولم يعد تصدير الثورة الإيرانية ذا طابعٍ راديكالي، يُعنى بالعنف الثوري، أو تغيير الأنظمة بالضرورة، بل بات جزءاً من قوةٍ ناعمة إيرانية، ففي العراق مثلاً، قامت قوى شيعية مرتبطة بطهران بالدخول في العملية السياسية المصممة أميركياً، كما أن القوى العسكرية المدعومة إيرانياً ضمن الحشد الشعبي ليست في وارد القفز إلى السلطة وتغييرها، على الرغم من الخلافات مع الحكم العراقي الحالي.
تعاظم دور الحرس الثوري، وهو أحد القوى المساهمة في صوغ السياسة الخارجية الإيرانية اليوم، جنباً إلى جنب مع الحكومة المنتخبة، تحت إشراف المرشد ورعايته. وساهم هذا الدور للحرس الثوري في إرساء تحالفاتٍ مع جماعات خارج الدولة (التركيز الإيراني على الجماعات خارج الدولة يُعزى إلى تحالف معظم دول المنطقة مع أميركا)، شيعية في الغالب، والبعد الشيعي يتضح أكثر في تصريحات مسؤولي الحرس الثوري. وإذا أضفنا إلى ذلك حجم الاستقطاب الطائفي، واستخدام الطائفية من الفاعلين الإقليميين الآخرين، وتآكل الدولة الصديقة لإيران، خارج التصنيفات الطائفية، ونعني سورية، فإننا نفهم بروز البعد الطائفي في السياسة الإيرانية أخيراً.
تحافظ إيران على تحالفاتٍ عابرة للطائفة، أهمها مع فصائل المقاومة الفلسطينية، الإسلامية والعلمانية، بما فيها حركة حماس، وتُبقِي على دعمها (الدعم الأكبر للفصائل الإسلامية)، لكنها أكثر انخراطاً في إيجاد شبكاتٍ تضامنيةٍ شيعيةٍ عابرة للحدود. ضمور البعد التحرّري العام من الاستعمار في السياسة الإيرانية داخل المنطقة، لصالح البعد الإسلامي، أوصل إلى بروز العنوان الشيعي في هذه السياسة، وفي مواجهة أميركا وحلفائها، تُفعِّل إيران الهوية الشيعية أكثر من الأدوات الأخرى، وربما ترى أن هذا يسهل مهمتها في بناء تحالفات في المنطقة العربية، لكنه قد يزيد عزلتها.
المصدر : العربي الجديد