مقالات

غازي دحمان – الصراع السوري إلى استراحة إجبارية

من السابق لأوانه الذهاب إلى نتائج حاسمة عن توجهات الأحداث في سورية في المرحلة المقبلة. وعلى الرغم من الأثر الإنساني والمعنوي لحدث سقوط حلب، فإنه لا يكفي للبناء عليه، ذلك أن الانزياحات التي تركها هذا المتغير ليست بالحجم الذي يؤدي إلى إلغاء المعادلات القائمة، مع أنه يغيّر في ديناميكيتها، بل يصلح أكثر لأساس تفاوضي، ستسعى روسيا إلى اختبار فعاليته وتثقيله في كفة أوراقها.

ولكن، ثمّة أمران باتا من الحقائق الصلبة في الحدث السوري، وسيشكلان مسارات الأحداث في المرحلة المقبلة، فقد أصبح سقوط بشار الأسد قضيةً بعيدة المنال، ليس فقط بالنظر إلى عامل متغيرات القوة الحاصلة في الميدان السوري. ولكن أيضاً للتبدلات الكبيرة الحاصلة في التوجهات العالمية. الأمر الثاني أن استقرار سورية أيضاً صار أبعد، في ظل حالةٍ بات الجميع فيها مستنزفاً، كما أثبتت عملية إعادة السيطرة على حلب التي تطلبت استنفار طاقات وموارد هائلة، تمثلت بحضور جميع أسلحة روسيا الاستراتيجية، وكامل احتياطي القوة الإيراني، وعجز المعارضة عن التحرّك للتأثير في المشهد. ولكن، على الرغم من ذلك كله، فإن سقوط تدمر بيد “داعش” عزّز نظرية أن الجميع بات غير قادر على تحقيق أهدافه كاملة.

انطلاقاً من ذلك، يُقدّر للمشهد ما بعد حلب أن يتمظهر عبر صورتين: اتجاه الأطراف جميعها إلى اتباع سياسة الحذر، من أجل استيعاب ما حصل من جهة، وللمحافظة على الأوضاع والمواقع. فروسيا، بعد تجربة تدمر، ستسعى إلى الحفاظ على مكتسياتها المتحقّقة، وعدم المغامرة بتوسيع جبهات القتال. كما أن المعارضة، بعد خسارة حلب، ستكون حذرة في المبادرة إلى أي هجوم، حتى لا تكشف كامل أوراقها. الصورة الثانية للمشهد ستتمثل في تكريس تراجع أدوار الفاعلين المحليين إلى أبعد درجة، وحضور قوي وعلني للاعبين الخارجيين. وبناءً عليه، ستتجه غالبية الجهود إلى إعادة بناء البيئة الإقليمية للصراع السوري، وهي حالةٌ ستنطوي على تموضعات جديدة للأطراف، كما ستشهد تفكيك تحالفاتٍ وبناء شبكاتٍ جديدة من التفاهمات بين الأطراف.

ولعلّ ما سيعزّز هذا الاتجاه اختلاف الأهداف النهائية للاعبين، فمثلاً على جبهة التحالف الروسي- الإيراني، لم يكن سراً نشوب خلاف بينهما على أمر إجرائي، تعلّق بخروج المقاتلين من حلب، وهو ما طرح التساؤل عن مدى التوافق بينهما حول إدارة الملف السوري في المرحلة المقبلة، سياسياً وعسكرياً، ذلك أن روسيا تعتبر نفسها أمام العالم المسؤول الأول عن هذا الملف. صحيح أن إيران قدمت أثماناً باهظة، لإيصال الأمور إلى هذه المرحلة، لكن، في المقابل، تدفع روسيا أثماناً سياسية واقتصادية بعيدة المدى، وهي، بلا شك، معنية بإيجاد صياغاتٍ تستطيع، من خلالها، تسييل انتصارها الحلبي في بورصة ملفاتها المعقّدة مع الغرب.

وثمّة أمر آخر، سيكون أحد العوامل المؤثرة قريباً في توجهات الحدث السوري، وهو دخول إدارة دونالد ترامب على خط الصراع. صحيح أن إدارة الرئيس باراك أوباما كانت موجودة، وبالتالي فإن أميركا حاضرة في الحدث، لكن إدارة ترامب تسعى إلى صياغة جديدة لحضورها، وهي صياغةٌ لا يوجد تقدير دقيق لها، بل ثمّة مخاوف لدى جميع اللاعبين بشأنها، وتحديداً الروسي الذي سارع إلى إجراء متغيراتٍ على أرض الصراع، لتدعيم مواقفه في مواجهة إدارة ترامب.

إذاً، نحن أمام مرحلة إعادة صياغة المشهد الحالي، أكثر منها الذهاب إلى تطوير معطياته، وثمّة أسئلةٌ ستشكّل الإجابة عنها مساراتٍ للأحداث المقبلة: كيف ستكون العلاقة بين روسيا وتركيا ميدانياً وسياسياً، بعد أن بات الطرفان يقتسمان السيطرة على مناطق الشمال في سورية، وكيف سيكون موقف تركيا من وجود هذا الكم من المليشيات التابعة لإيران على مناطق حدودها، وهل ستتوصّل الأطراف الثلاثة إلى حدٍّ أدنى من التفاهمات على الحل السياسي، أم أن الأمر سيذهب باتجاه التفاهم على اقتسام مناطق النفوذ وإدارتها، حلاً ممكناً ووحيداً في هذه المرحلة؟ ما تأثير العامل الأميركي على الترتيبات الحاصلة بين تركيا وروسيا وإيران، وضمن أي جبهة ستنخرط إدارة ترامب في الصراع؟ وما هو الموقف العربي، وتحديداً دول الخليج، وما إذا كانت ستسعى إلى تغيير طبيعة انخراطها، وما هي الآليات التي ستستخدمها والمسارات المتوقع السير بها؟

بموازاة ذلك أيضاً، ثمّة أجوبة منتظرة من الداخل السوري في المرحلة المقبلة، وسيكون لها أثر في التأسيس للمرحلة المقبلة، من نوع طبيعة المتغيرات المحتملة في بنية قوى الثورة، التحالفات والصراعات، وطرق وأساليب العمل، كذلك الأمر بالنسبة للجبهة المقابلة التي لا تقل فوضويةً عن جبهة الثوار، كيف ستكون العلاقة بين المليشيات الإيرانية، والقوى التي تقودها روسيا والتشكيلات التابعة لنظام الأسد، ومدى خضوعها لأوامر قيادية واحدة؟ فقد أثبتت الأحداث المتزامنة مع خروج الثوار من حلب أن تلك القوى لا تتبع قراراً سياسياً موحداً.

المرحلة المقبلة مليئة بالتداعيات، هناك نتائج غير مقصودة ستفرض نفسها، وهناك تطورات ستنتج عن تفاعل التداعيات. لا وقت في المرحلة المقبلة لاحتفالاتٍ بنصرٍ، ولا بكاء على هزيمة، بقدر ما يستلزم تتبع إلى أين تسير وجهة الأحداث.

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى