لماذا اختار قادة الكرملين تركيا للاتفاق معها حول سورية؟ ولماذا وضع الكرملين تركيا طرفاً رئيساً وحيداً معها في ضمان وقف إطلاق النار؟ أليس من شأن هذا الاتفاق، ومن ثم منصة أستانة، أن يعطيا تركيا موقعاً عسكرياً وسياسياً كبيراً في سورية كان ممنوعاً منذ سنوات؟
كثيرة الكتابات التي ذهبت إلى اتهام تركيا، بشكل غير مباشر، بإجرائها انعطافةً سياسية، والتخلي عن الثورة السورية في مقابل الشراكة مع روسيا، بدءاً من خفض سقف مستوى خطابها السياسي تجاه الأسد، مروراً بترك مدينة حلب للمصير الذي حدّده الروس لها، وإبعاد الفصائل المعتدلة عن جبهة فتح الشام، وانتهاءً بالمشاركة في منصة أستانة شريكاً رئيسياً فيها على حساب الهيئة العليا للمفاوضات.
نعم، أحدثت تركيا تحولاً في سياستها تجاه سورية، لكنه ليس تراجعاً أخلاقياً عن دعم الثورة، بقدر ما هو قراءة واقعية وموضوعية للأزمة السورية بمستوياتها المحلية والإقليمية والدولية كافة، وهو تحوّل لن يكون على حساب المعارضة، كما ستبين الأيام المقبلة. فمصير الأسد، على سبيل المثال، موقف دولي وليس روسياً فقط، حيث لم تلحظ الوثائق والقرارات الدولية المتعلقة بسورية أية إشارة إليه (بيانا فيّنا الأول والثاني، القرار الدولي 2254)، باستثناء ترك مصيره للسوريين، والأمر كذلك فيما يتعلق بجبهة فتح الشام المدرجة على قائمة الأمم المتحدة للفصائل الإرهابية.
أما مدينة حلب، فقد أخذت تركيا مقابلها منطقةً جغرافيةً تمتد من جرابلس، أعلى نهر الفرات، وحتى تل رفعت غرباً، وانتهاء بمدينة الباب في الجنوب، ضمن مثلث جغرافي حقق هدفين رئيسيين، يصبان في مصلحة المعارضة:
منع قيام كانتون كردي، ليس فقط بين شرق الفرات وغربه، وإنما أيضاً داخل منطقة غرب الفرات، عبر منع التواصل الكردي بين عفرين غربا وعين العرب (كوباني) إلى الشمال الشرقي من حلب. إعطاء منطقة جغرافية صافية لفصائل “الجيش السوري الحر”، تحت غطاء عسكري تركي وبتأييد روسي، واعتبار هذا الجيش شريكاً أساسياً في الواقع العسكري والسياسي الجديدين.
ومن شأن هذه المنطقة أن تشكّل، في المستقبل القريب، قاعدة سياسية، وليس عسكرية، للمعارضة، بحيث تكون موطئ قدم للحكومة الانتقالية للعمل داخل الأراضي السورية، وليس خارجها، وهذا تطورٌ مهم إن حصل، لا يجوز إغفاله.
وقد نقلت الهدنة العسكرية تركيا من حالة القوة إلى الفعل نداً للروس في سورية، ومكملاً لها في مشروعها الذي يحظى بدعم أميركي مضمر، وقد نجحت أنقرة في فرض وقف إطلاق النار على الفصائل، وسحبت البساط من ادّعاءات النظام السوري وإيران بعدم وجود قيادة موحدة لفصائل المعارضة، من شأنها أن تفرض وقف النار على الجميع.
وقد كشفت هذه الهدنة التباين الحاصل بين روسيا من جهة وإيران والنظام من جهة ثانية، بحيث يمكن القول إنه إذا كان هذا المحور موحّداً إزاء المخاطر، فإنه متباينٌ إزاء الحلول، كما بدا واضحاً في تصريحات إيران والنظام السوري، ومدى استيائهما من الاتفاق الروسي ـ التركي، بشقيه العسكري والسياسي، ومحاولاتهما عرقلته بشتى الطرق.
ولم يكن مفاجئاً أن يعلن موقع تابناك الإيراني، التابع للجنرال محسن رضائي، قائد الحرس الثوري الإيراني الأسبق، أمين عام مجمع تشخيص مصلحة النظام الإيراني، أن اتفاق وقف إطلاق النار لم يكن كافياً لحفظ مصالح طهران في سورية، لعدم وجود الإيرانيين على الأرض في ضمان وقف النار.
كما نجحت تركيا وحدها في الفصل بين المعارضة المعتدلة وتلك الإرهابية، وهذا سيخدم المعارضة، ولو جرى هذا الفصل قبل سنة لكان المشهد العسكري اليوم مختلفاً عما هو عليه. وبطبيعة الحال، سيساهم هذا الفصل في إدخال القوة المعتدلة المدعومة من تركيا في أفق التسوية، وبالتالي شرعنتها، وهو أمر طالما سعت دمشق إلى عدم حصوله.
وفيما يتعلق باجتماع أستانة، فهو ليس بديلاً عن جنيف الذي ترعاه الأمم المتحدة، كما يتصور بعضهم، وإنما يمكن وصفه بـ”إعلان إطار”، فالمسألة السورية لا يمكن اختزالها ضمن محور بمفرده، ولا يمكن حلها وفق مصالح محور بمفرده. إنها أزمة تعكس المصالح الإقليمية والدولية المتعارضة، ولا يكون حلها إلا بمظلة دولية، وهو ما أكّده وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في أثناء المؤتمر الصحفي الثلاثي لحظة صدور الإعلان.
ولن تتخلى تركيا عن دعمها الائتلاف الوطني مرجعية أساسية للمعارضة السورية، ولن تتخلى أيضاً عن صيغةٍ للتسوية تكون جادّةً، لا شكلية، هدفها إعادة إنتاج النظام، ولن تقبل القوى العربية الداعمة للمعارضة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بتسوية شكلية، وهذا ما تدركه روسيا جيداً التي لن يكون في صالحها استمرار المعارك إلى أجلٍ غير مسمى.
هدف منصة أستانة توسيع دائرة المعارضة، وتعديل شروط التسوية وتقديم حلول قابلة للتطبيق، تحظى بإجماع دولي، لكي يكتب لمفاوضات جنيف المقبلة النجاح، على عكس ما جرى في السنوات السابقة.
المصدر : العربي الجديد