مرت في العام 2016 مئة سنة على اتفاق سايكس ـ بيكو الذي وزّع المنطقة الشرق الأوسطية بين بريطانيا وفرنسا، وهو توزيع كان مفترضا أن تكون روسيا شريكا ثالثا فيه لولا اندلاع الثورة البلشفية في 1917. جعلت الثورة البلشفية روسيا تنكفئ على نفسها وتترك الشرق الأوسط للبريطانيين والفرنسيين الذين اعتقدوا أن في استطاعتهم تحويل الشرق الأوسط منطقة نفوذ لهم، متجاهلين بداية صعود القوّة الأميركية التي ما لبثت أن وضعت حدّا لطموحاتهم في العام 1956.
كان ذلك عندما أوقفت أميركا في عهد دوايت ايزنهاور حرب السويس، فوفّرت انتصارا معنويا لجمال عبدالناصر الذي لم يدرك في أيّ وقت معنى الاعتراف بموازين القوى القائمة في العالم من جهة، ومعنى التغييرات التي طرأت على هذا العالم منذ انتهـاء الحرب العالمية الثانية.
استغل ناصر هـذا الانتصار الوهمي لمصر كي يغيّر الخارطة السياسية للشرق الأوسط والتوازنات فيه لمصلحة أنظمة عسكـرية تحـوّلت مع الـوقت إلى دكتـاتـوريات قضـت على المجتمعات الحيّة في عدد لا بأس به من البلدان العربية، بما في ذلك مصر نفسها ودولة اخرى، لم تكن ولدت بعد، مثل اليمن الجنوبي الذي صار لاحقا، بعد الاستقلال في العام 1967، يحمل اسم “جمهـورية اليمن الديمقراطية الشعبية”.
هل تستعيد روسيا في 2017 الدور الذي فاتها في 1917 وذلك بالمشاركة الفاعلة في إعادة تشكيل الشرق الأوسط؟
هذا السؤال يطرح نفسه بحـدة قبل أيام مـن مؤتمر أستانا عاصمة كازاخستان التي ستستضيف في الثالث والعشرين من الشهر الجاري المعنيين بالأزمة السورية. ستكون بين الحضور، إلى جانب روسيا طبعا، تركيا وإيران والولايات المتحدة. صحيح أن المشاركة الأميركية في مؤتمر أستانا، الذي هو قبل كلّ شيء فكرة روسية، ليست مضمونة بعد، لكنّ الصحيح أيضا أن الحل السياسي في سوريا، إذا كان هناك من حل، سينتظر مـؤتمرا يعقد الشهر المقبل في جنيف برعاية من الأمم المتحدة. سيكّرس مؤتمر جنيف العودة الروسية إلى الشرق الأوسط عبر البوّابة السورية في ظلّ حضور أميركي مضمون.
بعد مئة عام على سايكس – بيكو، هناك عملية إعـادة تصحيح له. لكنّ الشـرق الأوسط الذي عرفناه طوال مئة عام لن يعود قـائما. ستكـون هناك عـودة قويّة لروسيـا إليه بموافقـة أميركية هذه المرّة. هذا في حال تمت الصفقـة بين فلاديمير بوتـين وإدارة دونالد ترامب التي ليس ما يشير، اقلّه إلى الآن، أنّها تريد بقاء روسيا خارج الشرق الأوسط، خصوصا خارج الساحل السوري.
نجحت موسكو، عندما كان هناك الاتحاد السوفييتي حيّا يرزق، في العودة إلى الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد سايكس – بيكو. كان الاتحاد السوفياتي في مصر وسوريا والعـراق. كان في ليبيا. كان خروجه من مصر في العام 1972، عندما طرد أنور السادات الخبراء الروس، مؤشرا إلى بدء مرحلة الانحدار السوفياتي في الشرق الأوسط. كان للاتحاد السوفييتي أيضا موطئ قدم في شبه الجزيرة العربية. كان اليمن الجنوبي أقرب إلى جرم يدور في الفلك السوفياتي.
بقي الوضع على هذا المنوال حتّى مرحلة متقدّمة من عمر “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية” التي انتهت في العام 1990 عندما قامت الوحدة اليمنية. ما كان للوحدة أن تقوم لولا انهيار دولة الجنوب نتيجة انهيار الاتحاد السوفياتي. ظهرت بوادر انهيار الاتحاد السوفياتي أوّل ما ظهرت في مثل هذه الأيّام من العام 1986 عندما فشلت موسكو في منع الاقتتال الداخلي بين أجنحة السلطة في عدن من جهة، وعجزها عن إخلاء مواطنيها من الجنوب اليمني من دون مساعدة الدول الغربية من جهة أخرى.
تمثّل عودة روسيا إلى الشرق الأوسط، من خلال الـدور العسكري لموسكو في سوريا، إحياء لسايكس – بيكو بحلته الجديدة. لا تـزال عملية إحياء سايكس ـ بيكو في بدايتها. لا بدّ من انتظار ما ستستقر عليه الأمور في سوريا والعراق وحتّى لبنان لمعرفة من ستكـون القوى المهيمنة في المنطقة.
الثابت إلى الآن أنّ الخـاسر الأوّل من سايكس – بيكو الجديد هو الدول العربية عموما، والدول المشرقية على وجه التحديد، إضافة إلى مصر التي تقف حائرة حيال ما يدور في المنطقة. لم تعرف هذه الدول المحافظة على نفسها. دخلت في متاهات الأنظمة الدكتاتورية التي قضت على المجتمعين العراقي والسوري.
سيكون هناك دور لروسيا في سوريا. ولكن ماذا عن الدور الإيراني في سوريا والعراق مستقبلا، وحتّى في لبنان؟ ماذا عن الدور التركي؟ ما هو موقع تركيا في المنطقة في ظل الحلف الجديد القائم بين موسكو وأنقرة، وفي ظلّ الطموحات الكردية التي تلقى آذانا صاغية في واشنطن؟
يظل السؤال الأهمّ مرتبطا بالدور الإسرائيلي، خصوصا في سوريا. ما كشفته الأيّام الأخيرة، لمن كان لا يزال يستخف بالتعاون القائم بين روسيا وإسرائيل، أن الحلف بين روسيا وإسرائيل أعمق بكثير مما يُعتقد. في استطاعة إسرائيل أن تضرب في الداخل السوري متى تشاء وحيث تشاء انطلاقا من التفاهم الذي توصل إليه فلاديمير بوتين وبنيامين نتانياهو. من يحتاج إلى دليل على ذلك يستطيع العودة إلى الضربة التي وجهتها إسرائيل إلى المطار العسكري في منطقة المزّة التي هي من ضواحي دمشق.
ستكون السنة 2017 في غاية الأهمّية نظرا إلى أنها ستحدد الأسس التي سيقوم عليها سايكس – بيكو بنسخته الثانية التي تتميّز بالعودة الروسية إلى الشرق الأوسط. لا شكّ أنّ هذه العودة ستظل مرتبطة بما تريده إدارة ترامب. كذلك ستكون مرتبطة بمستقبل الوجود الإيراني في سوريا والعراق ولبنان، إضافة بالطبع إلى ما تريده إسرائيل في سوريا.
من شريك خائب في عدوان العام 1956 على مصر، إلى منتصر في حرب العام 1967، إلى مصرّ على احتلال الضفة الغربية في معظمها، بما في ذلك القدس الشرقية، صارت إسرائيل التي سبق لها أن وقّعت معاهدة سلام مع بلدين عربيين هما مصر والأردن، لاعبا أساسيا في سوريا. ستقرّر إسرائيل من سيكـون على حدودهـا مع سوريا والترتيبات التي تريدها في تلك المنطقة.
لن تكشف السنة 2017 كيف ستكون العودة الروسية إلى الشرق الأوسط فحسب، ستكشف أيضا كيف سيكون الدور الإسرائيلي في سوريا في ظل التفاهمات بين أنقرة وموسكو، وفي ظلّ التنسيق الكامل بين بوتين ونتانياهو.
في ظلّ هذه المعادلة المختلفة التي تؤسس للنسخة الجديدة لسايكس – بيكو، أي دور سيكون لإيران في سوريا؟ هل تكتفي “الجمهورية الإسلامية”، التي لم تستطع تفادي الانهيار الكامل لنظام بشّار الأسد لولا اللجوء إلى موسكو، بأن تكون لاعبا ثانويا في هذا البلد متكلة على “حزب الله” والميليشيات المذهبية الأخرى التي استحضرتها إلى سوريا… أم سيكون عليها مراجعة دورها بشكل جذري، والاكتفاء بالتمسك بالورقة العراقية من منطلق مذهبي بحت؟
المصدر : العرب