المؤامرة هي “تنظيمٌ” يجري “في الخفاء” لفعل شيء ما، وهي عادة من فعل مجموعة أفرادٍ يسعون إلى إحداث انقلابٍ أو “ثورة”، أو اغتيال. أو هي من فعل أجهزة مخابراتٍ تعمل في الخفاء، لاغتيال شخصياتٍ أو تحقيق انقلاب. وهي تتميَّز عن الفعل الموضوعي، أو الفعل الذاتي المرتبط بفعل موضوعي. أي تتميَّز عن ثورات الشعب أو دور الأحزاب في تطوير حراك الشعب، لكي يصنع ثورة. لكنها تعبّر عن سياسات الدول لخدمة مصالحها، وكذلك التعبير عن ميول أفرادٍ يسعون إلى التغيير بـ “ضربة واحدة”، أي عبر قتل زعيمٍ أو رئيس، أو “إرهاب” الدولة من خلال قتل رموزها مدخلاً “حاسماً” لتغييرها. لهذا، المؤامرة صنع أجهزة أو افراد، لتحقيق مصالح أو أوهام.
لكن، ما ينتجه “العقل العربي” هو تفسير كل ما لا يفهمه بأنه مؤامرة. ويظهر ذلك حين شيطنة دولة أو فرد أو حزب. والشيطنة هنا عنصرٌ حاسم في نظرية المؤامرة، حيث بدونها لن تقوم نظرية المؤامرة هذه، لأنها مفصلٌ فيها، حيث هناك “شيطان” (هنا يجري الانطلاق اللا واعي من ثنائية: ملاك/ شيطان) هو الذي يقوم بكل السوءات، وهو الذي يفعل كل الشرور. طبعاً، هذا منطق أسطوري، لكنه يستحكم في “العقل العربي”، وحتى اليسار العالمي. وهو نتاج فهمٍ ما قبل حداثي، ينحكم لمنطق صوري، وتفسير ميتافيزيقي. وأوّل أمرٍ فيه هو أنه لا يرى الواقع، ولا يدقّق في التكوين الواقعي، بل يتبع ما كان يسميه ياسين الحافظ: الشلف.
فرض هذا الاستحكام تفسير الثورة بأنها مؤامرة، انطلاقاً من موقف “الشيطان الأكبر” السابق من النظام الذي قامت ضده. ولكن، تأسيساً على رؤية استعلائية جاهلة نحو الشعوب. حيث تغيب الشعوب من كل منظور. أكثر من ذلك، يُنظر إليها على أنها جاهلة وعاجزة، وخانعة. لهذا، يجري الانطلاق من استحالة أن تقوم بالثورة، فهي خارج حساب الصراع أصلاً، وهي جاهرة إلى حدّ أنْ “تُغتصب من أول عابر طريق”. وهي مُخدّرة إلى حدّ أن تُحرّك بـ “الروموت كونترول”، حين يريد “الشيطان الأكبر” تحريكها. هي “حجارةٌ على رقعة الشطرنج”.
هذه “الخلفية” التي تسكن “العقل العربي”، وبالتحديد “العقل (أو اللا عقل) اليساري”، هي التي واجهت انفجار الشعوب، وثورتها ضد النظم. لهذا، كان سهلاً تفسير الثورة في سورية بأنها من “فِعل إمبريالي” (من فعل الشيطان الأكبر)، فقط لأن النظام كان يبدو (وأصرّ على يبدو هذه) في موقع العداء لأميركا، التي هي الشيطان الأكبر. ومن ثم حدث التداعي إلى حدّ اعتبار ما جرى في كل الثورات أنه من “فِعل إمبريالي”، من فعل الشيطان الأكبر، فأميركا التي صاغت المنطقة كما تبلور منذ سبعينات القرن العشرين، وكرّست نظماً تابعة، ونهبت الاقتصاد، وبالتالي، أوجَدت “ستاتيكاً” ينحكم لهيمنتها، أعطى المجال للدولة الصهيونية، لكي تهيمن على كل فلسطين. أرادت أميركا هذه أن تقلب هذا الستاتيك، وأن تحقق “الفوضى الخلاقة”. لهذا “صنعت الثورات”. لماذا تريد أن تقلب الستاتيك؟ ليس معروفاً، سوى الحديث عن إسقاط “نظم الممانعة”، إلى حدّ أن نظم بن علي وحسني مبارك وعلي عبد الله صالح باتت نظمَ ممانعة.
الخطر في الأمر هو الانطلاق من “القدرة الخارقة” للإمبريالية الأميركية من جهة، ومن سهولة جرّ الشعب إلى الثورة عبر “التحكُّم الإنترنتي” من جهةٍ أخرى.
المفزع في هذه النظرة أن اليسار الذي من المفترض أنه يثق بقدرات الشعوب، ويراهن على دورها، ويعتبر أن الثورات هي نتيجة تفاقم الصراع الطبقي، حين ينهار وضع الطبقات المفقرة معيشياً، هو الذي يعتبر أن ثورتها مؤامرة، ومن فعل “عدوها الطبقي”: أي الإمبريالية. هل هناك أكثر بؤساً من ذلك؟
يسار بائس يستحق الدفن، فلم يفعل سوى الهذر.
المصدر : العربي الجديد