ليست المرة الأولى التي يناقض بها الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، تصريحاتٍ سابقة له، كما أنها ليست غريبة على الوسط الدبلوماسي الأميركي، إذ يغرّد كل منهم باتجاه يجعل حصيلة الجمع لهم من المعنيين في تصريحاتهم تساوي الصفر. لكن، مع ذلك، ما ألمح إليه ترامب، أخيراً، يمكن الاستنتاج منه إمكان حصول تغيّر ما في السياسة الأميركية، بعد رحيل إدارة باراك أوباما، تجاه الوضع في سورية، وتجاه التدخل الروسي فيها.
وكان ترامب وجّه نقداً لسياسات الإدارة الأميركية المنصرفة التي لم تعمل شيئاً تجاه الأزمة السورية، عندما كان هناك إمكانية لديها لعملٍ ما، بحسب تعبيره، كما اعتبر التدخل الروسي في سورية سيئاً جداً، ووصف الوضع الإنساني في مدينة حلب بأنه “فظيع”.
تعد تصريحات ترامب هذه غير متوقّعة، بالنظر لآرائه التي كان أدلى بها لدى ترشّحه للرئاسة، بشأن موقفه من الصراع في سورية، وخصوصاً موقفه من روسيا. وبحسب تجربتنا السورية الطويلة مع التصريحات الصحافية الأميركية، لا ينبغي لنا الاتكاء كثيراً عليها، ونحن نضع تصورات الحل السوري المنشود، فما نجنيه من تصريح لهذا المسؤول الأميركي تذهب به ريح تصريح لمسؤول آخر، فتجربة السنوات الماضية علمتنا أن المعيار هو الموقف العملي. وفي الحقيقة، فإن تصريحات الرئيس السابق، باراك أوباما، إن “الأسد فقد شرعيته، وعليه أن يرحل”، وإن استخدام السلاح الكيماوي “خط أحمر”، لم تنفع شيئاً في دعم السوريين وحمايتهم، أو دعم ثورتهم، من الناحية العملية، ولم تشكل رادعاً مناسباً للنظام، ولا لحلفائه، إيران وروسيا الذين استباحوا سورية، أرضاً وشعباً.
ولعل هذه مناسبة للعودة إلى تصريحاتٍ أدلى بها روبرت فورد، السفير الأميركي في دمشق (2010- 2014)، أخيراً، والذي لم تسنح لي الظروف للقائه، لا قبل الثورة ولا بعدها، على الرغم من معرفته بكثيرين، بحكم عمله، وبحكم التطورات الحاصلة في سورية. وكنت أتابع تصريحاته في أثناء توليه الملف السوري، وبعد تنحيه عنه. ويعد فورد من أهم المسؤولين الأميركيين متابعةً لملفات الصراع الجاري في سورية، منذ بدايته، وهو الذي قام بزيارة إلى حماة في يوليو/ تموز 2011، إبّان الاعتصام الشهير في ساحة النواعير، وزار دوما وداريا وغيرهما من مناطق الحراك الثوري، الشعبي أو السلمي، في العاصمة دمشق، وهي الزيارات التي اعتبرت إيحاءً بدعم الولايات المتحدة الثورة، وتشجيعا للسوريين على التظاهر.
في تصريحاته تلك، والتي جرت قبيل انهيار فصائل المعارضة العسكرية في حلب، أقرّ فورد بأن تغيرات كبيرة طرأت على الصراع بين النظام والمعارضة، أهمها، أن “الإيرانيين باتوا قادرين على المجيء بآلاف المقاتلين من مليشيات في العراق أو مخيمات لاجئين للأفغان…”، معترفاً، في الوقت نفسه، أنه “عندما كان القتال بين الجيش السوري أو ما تبقى منه والمعارضة بداية، أعطت حرب الاستنزاف الأفضلية للثوار”. (وهذا ما أكده وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف، في 17 يناير/ كانون الثاني الجاري، باعترافه أن النظام كان على وشك الانهيار خلال أسبوعين، لولا التدخل الروسي)، إنما اليوم وبسبب التدخّل الإيراني (بحسب فورد)، فهذه الحرب في مصلحة طهران في المدى الأبعد. “ومع أن حديث فورد يوحي بالتنصّل من مسؤولية بلده عن التدخل الإيراني (ثم الروسي) في سورية، إلا أنه يوجه انتقاداتٍ خجولةً لإدارة أوباما، محملاً إياها بعض المسؤولية، في قوله: “بدلاً من ممارسة ضغوط على الحكومة العراقية، لوقف عبور طائرات التسليح الجوي الإيراني عبر أجوائها إلى سورية، تجاهلنا الأمر وغضضنا النظر… كما أن واشنطن لم تفرض عقوباتٍ على موسكو، ردّاً على ما تقوم به في سورية”.
عذراً فورد، هذا كلام يمكن قبوله من دولة صغيرة ومغلوبة على أمرها، لكنه غير مقبول من الولايات المتحدة، بمكانتها وقدراتها، ورؤيتها نفسها قطباً عالمياً مهيمناً، إذ كان في وسعها الحؤول دون التدخل العسكري لإيران ثم روسيا، بطرق عديدة، غير عسكرية، كما كان بإمكانها فرض حظر جوي في سورية، أو إيجاد مناطق آمنة للسوريين، بالتعاون مع تركيا والأردن، أو تقديم الدعم لـ “الجيش الحر” بدل تجميده، داخل معسكرات في بعض دول الجوار، وترك الساحة لمبادرات بعض الدول لإيجاد فصائل مسلحة ذات أيدلوجيا متطرّفة وطائفية وإقصائية.
بيد أن ما يلفت الانتباه، وفي سياق التنصّل الأميركي من المسؤولية عن الكارثة التي ألمت بسورية، أرضاً وشعباً وعمراناً، النصائح أو التوجيهات التي ادّعى تقديمها للمعارضة. وبحسب فورد، فإنه عندما ذهب إلى اعتصام حماة، قال للمحتجين “إذا تسلحتم لن يساعدكم الغرب، ولا الجيش الأميركي، سورية…بعض الناس قالوا لي إن المعارضة السورية فهمت زيارتي حماة بأننا سندعمها مهما كلّف الأمر. وهذا لم يكن هدف الزيارة، وأنا لم أقل هذا الكلام إطلاقا”. وطبعاً، هذا كلام يفترض سذاجةً عند الآخرين، وكأن زيارة سفير دولة عظمى اعتصاماً جماهيرياً هائلاً زيارة مجاملة فقط.
مع ذلك، يواصل فورد حديثه، مذكّراً بنصائحه للمعارضة بالطريقة الملتبسة إياها، بقوله: “قلنا لهم مثلاً تجنّبوا تنظيم القاعدة، إنما لم نمنحهم بديلاً. وعوضاً عن مساعدتهم في عدم التحوّل إلى القاعدة، لم نقدّم سوى الوعظ”. فوق ذلك، لمح فورد إلى انتقاداتٍ وإرشاداتٍ، بخصوص طريقة خوض الفصائل العسكرية معاركها ضد النظام، على خلفية معركة حلب، بقوله: “أعتقد أننا أمام صورة مشابهة لما رأيناه في القصير في ربيع 2013، عندما حاول الثوار أن يسيطروا على مواقع يمكن محاصرتها وضربها بقوةٍ جويةٍ وبالدبابات والمدفعية، وهنا التفوّق للحكومة السورية، ما يجعل من المستحيل استمرار السيطرة على المواقع. وعلى غرار خسارة الجيش الحر في القصير، يتكرّر الأمر عينه في حلب. من هنا، سيكون على الثوار تغيير تكتيكاتهم، إذ لا يمكنهم الاستمرار في محاولة السيطرة على أراضٍ كجيش تقليدي، لأنهم ليسوا كذلك. وليس في مقدورهم التصدّي للطيران الروسي، وعليهم إعادة التفكير باستراتيجيتهم”.
ولعل العبارة الأخيرة هي الأهم في كل ما تقدم به السيد فورد الذي يحاول التنصّل من مسؤولياته سفيراً سابقاً لدولة عظمى، في بلد نكّل نظامه بالشعب قتلاً وتشريداً وتعذيباً، تحت نظر العالم وسمعه، وببث مباشر أسهمت تبرعات دولته به. نعم، لا بد للسوريين من إعادة التفكير باستراتيجيتهم، معتمدين على قدراتهم الذاتية، ومنطلقين من مصلحتهم، شعباً ودولةً، لا تقبل التقسيم، وتعمل من مبدأ عدالة القسمة للمواطنين أفراداً وقوميات. أي تغير في السياسة الأميركية لصالح الشعب السوري مهم ومطلوب، بيد أن التجربة علمتنا ألا نراهن على ذلك.
المصدر : العربي الجديد