مقالات

أحمد عمر – عزف منفرد في حضن الوطن

الوطن ليس حضنا فقط، هو قفا وأخمص وكعب، وقد يكون قبرا للأحياء والأموات، إنك مجيب الدعاء يا رب العالمين.

طرحت المذيعة المصرية الحسناء، في إحدى فضائيات إرم ذات العماد، على رئيس مصر الجذاب سؤال الوطن، والرئيس من الرأس، والرأس أكمل الأعضاء وأنبلها، وفيها منبع العقل، ومصدر الحكمة، ففكر الرئيس الملهم الموصوف بالنبوة، وبعض صفات الألوهية، فكّر وقدّر، وضرب أخماسا بأسداس ثم بأسباع، ثم أجاب جوابا من عالم افتح يا سمسم أبوابك نحن الأطفال، لا من مناهج ثقافة السياسة وأدبيات الحكم وحكمة الدولة، أجاب جوابا يجيبه أي طفل عيّل في الصف الأول الابتدائي، وقال بعد تأمل وتفكير عميقين، وبعد أن نزل عليه الوحي وبنات الإلهام، والعفاريت، وشياطين الأنس التي توسوس للمنقلبين و”تَؤُزُّهُمْ أَزا”، وبعد أن ملَّ المشاهد من انتظار الجواب، قال: الوطن حضن، وقامت المذيعة بدور الأم الفرحة بمعجزة ابن الثورة الثانية الأخرس الذي نطق بالجوهرة، فضحكت سعيدة بجواب “ابنها” وهو يتحدث عن حضن الحليب والعسل.

لقد كان مشهدا من مشاهد العاطفة الوطنية الخالصة، والنبوغ، والأجوبة المفحمة، والبلاغة، سيتكرر عبر الشاشة الوطنية “كسيرا”.

الوصف صار في سوريا “ماركة مسجلة”، فالشعارات الوطنية الطغيانية تتشابه من بغداد إلى الصين، وصف الوطن بالسقف، لكن الميل لوصفه بالحضن أكثر من وصفه بالسقف.. الأطفال يحبون الأحضان والأب القائد الذي جعل الشعب طفلا يحبه، والشعب يحب الحضن أيضا.

العيّل المصري العجوز، الحاكم في معرض حديثه عن إعادة تيران وصنافير المحتلتين للسعودية، لم يذكر الدستور، أو التاريخ، أو الخرائط، وإنما ذكر أمه، قال: إن أمه ربته تربية صالحة، وأوصته وهو صغير ألا يأخذ حاجة ليست “له”. مصر صارت له، لكن من غير هاتين الزائدتين الدودتين في جسم مصر، الرئاسة كانت له وقد أخذها بعد أن أقسم أنه ليس له طمع في أي حاجة.

إن الموالين للسيسي والأسد يحبّون الأحضان، الرئيس طفل أيضا، لقد تعود على حضن القصر وحضن الإعلام وحضن الجماهير، ولن يفطم أبدا، إلا بالموت. اللهم افطم الرئيس على يد هادم اللذات ومفرق الجماعات، إنك مجيب الدعوات يا رب العالمين.

هناك كائنات في المملكة الحيوانية والنباتية لا تعيش إلا في حضن كائنات أكبر، بالأحرى على عتبة حيوانات أكبر، ونباتات أكبر، تسمى هذه الكائنات بالطفيليات.
لمَ عاد هؤلاء إلى حضن الوطن، وقد أغرتهم الثورة بحضنها؟

هل هو الحنين إلى الوطن والأهل والمنزل الأول ما دفع هؤلاء للعودة؟ أم هي الجاذبية الروحية؟

كان يمكن لهؤلاء أن يعودوا إلى ديارهم بهدوء، بصمت، لكنهم عادوا بعرس، كما خرجوا بعرس، وحضن الوطن لا ماء فيه ولا شجر، لم يبق منه سوى قفص صدري عليك سلام الله يا عمر. في أيام الثورة الأولى، التي ذهب نقاد ومؤرخون إلى أنها انتفاضات، وليست ثورة، وتلك قراءة تعويضية تستعجل الثمار، فصيف الربيع العربي وحصاد الربيع لم يأت أوانه بعد، حصاد المؤمنين هو في يوم الحساب، في الآخرة.

كان الجند والضباط ينشقون، ويظهرون على التلفزيون في أوكازيون الانشقاق، وها هو الانشقاق المعاكس قد أتى أوانه. أو أن هؤلاء لم ينشقوا حقيقة، وإنما كانوا مندسين، وليسوا منشقين. كانوا حمير طروادة، وتسمية حمير هي وصف يليق بقواهم العقلية، فالذين عادوا إلى حضن الوطن أميون، أقرب إلى الحمقى، كيف نصفهم بهذا الوصف وفيهم ضباط وزعماء عشائر؟ ينطبق عليهم قول عليه الصلاة والسلام على الأقرع بن حابس: أحمق مطاع. وكان أمثال بن حابس قلة في العصر الجاهلي، لكن اليوم هم وباء وطاعون ونقص مناعة مكتسبة، فنحن محكومون بالحمقى، فلا يطاع فينا إلا الحمقى، الدول الغربية التي تمنح الشرعيات لا تمنحها إلا “لأهل الشر” والحمقى أشد شرا لو كانوا يعلمون.

وكان الوريث الجمهوري السوري قد واسى نفسه قائلا: إن الجيش والدولة تتنظف ذاتيا. أما نحن فنقول: لقد كانت الثورة ملوثة، انضم إليها من دبّ ودبّ، وكان أكثرهم من ذوات الأربع، ومنهم من لا يجيد سوى الزحف على بطنه. بل، قاد الثورة إعلاميون منشقون ومندسون، وكان من بينهم إعلامي دسّته وتبنته جهات دولية، لا يزال مأمونا لديها، وكانت الثورة بقيادات كثيرة، كثيرة جدا، بحيث تضل السفينة، وتغرق في اليابسة، المثل يقول كثرة الطباخين تحرق الطبخة.

ذاب الثلج وبان الفرج، وراحت السكرة وبانت العورة، وعاد معارضون اندسوا في المعارضة، وسرقوا ونهبوا الأموال من الجيوب، والألوان والأضواء على التلفزيونات، ونالوا شرف المعارضة (ورد هذا مرة على لسان مسؤول من تنظيم النظام، وفيه اعتراف بأنّ المعارضة شرف واعتراف ضمني منه بأن المولاة قلة شرف) والأسباب كثيرة نحصرها فيما يلي: أولها أن المعارض التائب العائد إلى حضن الوطن، اختبر شرف المعارضة فلم تعجبه. الطأطأة مفيدة للمصابين بالجنف وانحناء الظهر من شدة الركوع، الاستقامة متعبة.

يمكن أن نتذكر فيلم سوق المتعة من بطولة محمود عبد العزيز، وكان قد سجن بريئا، فخرج من السجن وبنى بأموال المكافأة التي حصل عليها من المجرمين سجنا مثل الذي قضى فيه ردحا من الزمن، بسبب الإدمان والحنين والاعتياد على الذل المبين، ولم يستطع أن يأتي حبيبته التي مثل دورها الهام شاهين، كان قد تعود على “الاكتفاء الجنسي الذاتي”. هؤلاء ينطبق عليهم قول الشاعر أبو الفوارس عنترة، بعد عملية مصالحة وطنية على البيت الشعري، فصار كالتالي:
ماءُ الحياة ِ بعزة كجهنم وجنة بالذلّ أطيبُ منزل

ويمكن تذكر قول لغوار الطوشة في مسرحية غربة، هو: “ما في أغلى من الوطن”، لا في يا رفيق غوار، فالإنسان قبل الأوطان، والكرامة أغلى من الوطن.

ثمة حكاية قرر فيها تاجر الزيت الحج إلى بيت الله، فكف عن بيع الزيت المغشوش توبة إلى الله، وقرر بيع الزيت الصافي، لكن الزبائن الذين تعودوا على الزيت المغشوش، اتهموه بغش الزيت، فاضطر إلى العودة إلى الغش تحت طلب الجماهير، فعاد إلى حضن الوطن.
ويمكن أن نتذكر لوحة لعلي فرزات، فيها يضحك ناس لهم ذيول حمير من إنسان كامل في أحسن تقويم، لأنه بلا ذيل، ومن شبّ على شيء شاب عليه، والنقش في الصغر كالنقش على الحجر، وأظن أن المقصود بحضن الوطن، هو البوط المقدس، فهؤلاء العائدون إلى حضن الوطن مثليون وطنيون، هم “مثل” الرئيس، ومثل المخبر.

يقول فولتير: “إن وقوفي لحظة واحدة بريئا في قفص الاتهام، ينسيني ألف قول عن حضن الوطن، وعدالة الوطن، وجمال الوطن”. ونحن في سوريا ومصر وليبيا وأكثر البلاد العربية، متهمون تحت الطلب، لا نبرأ من التهمة إلا بالموت. وفي مصر، كثير من المتهمين من الموتى، فهم لا ينجون من التهمة حتى بعد الموت. قال إدواردو غاليانو مرة قولا شجاعا:” ابن ساقطة من يعتقد أن الوطن بيت للجميع”.

كان الوطن مزرعة الرئيس وآل الرئيس، كان يزرع فيها اليأس والخوف والمخدرات الوطنية، وكنا نحصدها، كل حبة خوف تنبت سبع سنابل، واليأس أضعاف مضاعفة.
دفعنا أموالنا وأهلينا ثمنا للغربة التي كانت عقوبة تعزيرية فقهية عندما كانت الديار ديارا. اقتحمنا البحار، وواجهنا أسماك القرش لنكون لاجئين، هربا من حضن الوطن الخانق..
الوطن كان، ولا يزال، بوطا عملاقا، طويل الرقبة.

المصدر : عربي 21 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى