مقالات

عمر قدور – إسلاميّو سورية في مأزقهم

جراء هجوم «جبهة فتح الشام» (النصرة) على العديد من الفصائل الأخرى، أعلن قسم من الأخيرة انضمامه إلى فصيل أحرار الشام، ليتموضع الانقسام الأكبر لاحقاً بين النصرة وأحرار الشام. المجلس الإسلامي السوري، الذي أنشئ منذ حوالى سنتين ووصِف بالاعتدال، أصدر الفتوى التي تبيح قتال النصرة، واصفاً عناصرها بالخوارج وبالبغاة الصائلين المعتدين.

وكما نعلم استُخدمت التعابير ذاتها من قبل في وصف تنظيم «داعش»، وهي تضمر التكفير إذ تتهم النصرة بالخروج على الجماعة في «بلاد الشام» حركياً، فوق الاتهام بالخروج عليها فكرياً.

أول ما يلفت الانتباه في بيان المجلس الإسلامي السوري هو اعتماده لغة التكفير، اللغة التي كان قد رفضها رئيسه الشيخ أسامة الرفاعي غداة التأسيس، إذ اعتبر ألا مكان للفكر التكفيري في سورية، وأن داعش ينشر هذا الفكر لكونه مخترَقاً من استخبارات النظام وإيران والعراق. اضطرار المجلس إلى اعتماد لغة التكفير ذاتها عميق الدلالة، ليس على صعيد احتدام المواجهة واقتراب أوان حسمها، بل أيضاً على أن لغة التكفير تبدو لا مفرّ من الوصول إليها بين الإسلاميين أنفسهم، وربما بينهم في المقام الأول.

نظرياً، تقطع لغة التكفير خط الرجعة بين الطرفين، وتجد سندها الواقعي في انسداد الأفق أمام جبهة النصرة. فبعد الانعطافة التركية الأخيرة اكتمل حصار النصرة خارجياً، وربما بعد مؤتمر آستانة وقبله تُنجز الإعدادات لحصارها داخلياً، قبل أن تنقض على أولئك الذين سلِموا من «داعش». «النصرة» لم تبادر إلى التكفير، مثلما يُتوقع منها، لأنها ليست في أفضل الظروف للمبادرة العلنية، وقد يكون لتماسكها التنظيمي حتى الآن دور في عدم حاجتها الداخلية للفتوى، على قدر حاجة المجموعات الأخرى المتعددة، أو المهددة بالانقسام.

التمايز المطلوب دولياً منذ مدة قد يتحقق قريباً إذا حصلت المواجهة الكبرى مع النصرة، وهذا يعيد رسم لوحة التنظيمات الإسلامية ويقسمها فعلياً إلى ثلاثة بؤر، «داعش» و «النصرة» وما تبقى من فصائل مسلحة، الفصائل التي ترفع علم الثورة قد لا يتبقى منها سوى المنضوية في عملية «درع الفرات» إذا استمر مسلسل الالتحاق بأحرار الشام، أو الاستجارة بها. وإذا شهدنا خلال الفترة الماضية تعاوناً، لا يخلو من الحروب الصغيرة، بين «النصرة» ومعسكر الاعتدال فقد تشهد الأيام المقبلة تعاوناً مماثلاً بين «النصرة» و «داعش»، هذه المرة على قاعدة العداء للغرب الذي يستهدفهما، وهو ما يعيد «النصرة» عملياً إلى خطاب تنظيم القاعدة.

إذا دخلت «النصرة» في مواجهة شاملة مع بقية الفصائل، وهي مستهدفة من قبل التحالف الدولي وروسيا، فذلك سيؤدي تلقائياً إلى حصر معركتها بالغرب وبالفصائل التي تكون قد قاربت مثال «الصحوات» العراقي. التشبيه الأخير سيستمد قوته من عملية التسوية التي انطلقت في آستانة، وعلى الأرجح أُنجز بعض تفاهماتها الكبرى بين موسكو وأنقرة. سنكون بعد الفصل السابق، بين متطرفين ومعتدلين، أمام تمايز بين مَن يقبلون بتسوية ومن لا يقبلون، والقبول من دون تحقيق الأهداف الكبرى المعلنة سيعني تخاذل أصحابه، وقد يفضي إلى مكسب الأكثر تطرفاً باطراد مع حجم التنازلات.

مأزق «النصرة» أنها لا تستطيع التخلي عن سوريتها التي كانت سبباً للانفكاك عن تنظيم القاعدة، إذ لا تُعدّ حروب الأخير وتطلعاته في أولويات السوريين، وهي إذا كانت ستعود إلى نهج القاعدة فلن تكسب أنصاراً محليين جدداً.

من الجهة الأخرى، سبق «داعش» «النصرةَ» في استقدام المقاتلين الأجانب، بخاصة القادمين من الغرب، ومن الصعب على «النصرة» اللحاق به بعد اكتسابه زخماً إعلامياً ضخماً بسبب العداء للغرب. انفكاك «النصرة» عن «القاعدة» أسهل من عودتها حتى على التنظيم الأم، وربما كان الظواهري تواقاً إلى حلّ الجولاني من مبايعته، أيضاً بسبب ارتباطات تنظيم «القاعدة» مع قوى إقليمية أخرى تعادي الغرب على أرضية أيديولوجية «شقيقة» أو مغايرة، ولها أجندات مختلفة في سورية.

قد يكسب التطرف أنصاراً جدداً إذا فُرضت تسوية مجحفة في سورية، هذه الخلاصة التي باتت نقداً تقليدياً محقاً للغرب لا تقول الكثير محلياً عن انعدام أفق الإسلام الجهادي، وعن اصطدامه المحتم بأية تسوية سياسية مهما كانت. المسألة لا تتعلق بالإسلام الجهادي فحسب، هي هكذا مع أية أيديولوجية تعاند الواقع حتى إذا اكتسبت زخماً في وقت من الأوقات. هذه العدمية السياسية لن يُقيّض لها النجاح، لا لأن الغرب يعارض مشروعها ويضع أمامه العقبات، بل لأنها لا تملك نهجاً سياسياً قابلاً للتنفيذ في أي مكان إلا باستخدام العنف والقهر. لذا قد يبدو قولنا عن المظلومية التي تولّد التطرف موجّهاً إلى الآخرين فقط، من دون احتساب كلفته الباهظة محلياً، أو من دون اكتراث كافٍ بها.

نقد هذه العدمية السياسية العائدة للمشروع الجهادي سيكون أكثر فائدة بمشاركة إسلام سياسي حقيقي، لا يتعيّش على فشل الجهادي ولا يغذّيه، وفوق ذلك لا ينجرّ إلى ملعبه التكفيري. الفرق لا يتعيّن فقط في استخدام العنف أو عدمه، فالاختلاف الجوهري للسياسي عما هو غير ذلك يتعين في الاعتراف بالواقع والفاعلين فيه، من دون أوهام توتاليتارية أو أوتوقراطية.

يصلح هنا أكثر الخروج من التصنيف التقليدي بين متطرفين ومعتدلين، لأنه لا يفيد في قطع معرفي بين الطرفين، ويبقي الحدود سائلة بينهما فكرياً وتنظيمياً. ويلزم أكثر أن يعرّف الإسلام السياسي نفسه بدلالة تتجاوز الاعتدال، أن يعرّف نفسه بالسياسة، وبحيّزها الجغرافي الواقعي لا المتخيَّل، كما هو متوقع من أي فاعل سياسي معاصر.

مأزق إسلاميي سورية اليوم لا يختلف في الجوهر عن مأزقهم في ما لو سقط النظام، فخيارات الحرب بينهم قائمة ومؤجلة طوال الوقت، كذلك هي اتهامات التكفير التي تعبّر عن المأزق في السياسة أكثر من حمولتها الفقهية التعبوية. في وسع تنظيمي «داعش» و «القاعدة» التملص من المأزق بالمغادرة وتبديل «أرض الرباط»، هذا لا ينطبق على الإسلاميين السوريين باستحقاقهم المحلي الذي ازداد ثقلاً مع ممارسات «أخوة المنهج». قد ينقذ الدعم الدولي والتركي المعتدلين في معركتهم الحالية ضد المتطرفين، لكن السؤال الذي تتعين مواجهته لاحقاً: ما الذي يتبقى من الاعتدال عندما لا يبقى ثمة تطرف؟

المصدر : الحياة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى