مقالات

غازي دحمان – عوائق دولية ستمنع ترامب من تنفيذ تهديداته

في بداية عهده يطلق دونالد ترامب النيران في كل الاتجاهات، من دون مبرّرات حقيقية وواضحة، واللافت أن الجهة الوحيدة التي سلمت من نيرانه هي روسيا، وفي الوقت الذي يعتبر بعضهم في أميركا أن تصريحات ترامب تكتيكية الهدف الوحيد منها هو ترك خياراته مفتوحة، فإن الكثير من اللاعبين الإقليميين والدوليين يتعاطون مع الأمر بجدية ويعملون على تغيير الوقائع وإجراء ترتيبات تقوّي مواقفهم تجاه ترامب وسياساته.

بخفّة وتسرّع، لا يليقان بصانع قرار دولة بحجم الولايات المتحدة الأميركية، يحاكم ترامب تحالفات وكيانات وأنظمة تكاد تشكّل أحد ركائز النظام الدولي المعاصر، مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي والصين، ويفعل ذلك بإسلوب ينطوي على تهديد واضح بالعمل ضدها والسعي إلى تفكيكها أو تهميش فعاليتها، ويفعل ذلك أيضاً من خلال النظر من زاوية ضيّقة تركّز على التكاليف من دون حساب أخطار هدم هذا المعمار والتداعيات المحتملة على الأمن العالمي واستقرار النظام الدولي!

وتظهر سياسات ترامب، المعلن عنها من خلال تصريحاته ووعوده، عدم الاهتمام بالعواقب الطويلة الأجل، وهذا ما يرده خبراء السياسات إلى علاقته الضعيفة بالواقع وتكوينه السياسي السطحي، الذي تتراكب فيه روح المغامرة في شخصية رجل المال الذي وصل الى حالة الإفلاس أكثر من مرّة، مع فجاجة مقدم برامج الواقع التلفزيونية، مع «الفتوّة» الحزبية القائمة على المكايدات والمؤمرات إضافة إلى الصفقات.

لكن ترامب، على رغم التوصيف السابق، لن يعيش كرئيس للولايات المتحدة في برجه الخاص في الحي النيويوركي الراقي، بل في البيت الأبيض في واشنطن، هناك سيتعامل مع نخبة مختلفة وقضايا مغايرة وأدوات جديدة، هناك لن تكون مهمته إدارة شركاته وموظفيه وأمواله وشؤون عائلته، بل سيدير علاقات أميركا في البيئة الدولية ومجموعة مصالحها وتوازنات القوى التي تتيح لها المحافظة على فاعلية أدوارها وتضمن حضورها، وهناك أيضاً سيواجه الكونغرس وجماعات الضغط والصحافة الحرّة والمجتمع المدني الذي لا يخدم أعضاؤه في أي من شركات ترامب.

إضافة الى ذلك، سيواجه ترامب أطرافاً دولية، تنبّهت مسبقاً لاحتمال حصول تغييرات في البيئة الدولية، وصنعت بدائل وخلقت وقائع صلبة يصعب تغييرها، ولم تكن سراً الحركة الدائبة التي قامت بها روسيا وإيران والصين وكوريا الشمالية، مستثمرة الرخاوة التي انطوت عليها مرحلة حكم أوباما ورفعت من أرصدتها الاستراتيجية، جغرافياً وتسليحاً، مما قد يحتاج معها ترامب إلى إجراء تعديلات هيكلية كبيرة على مستوى الانتشار والانخراط، وحتى على مستوى البنى التحتية للمواجهة بعد أن دمّرت إدارة أوباما الكثير من الشبكات التي كانت تستند عليها أميركا في تدعيم حضورها وفاعليتها.

هل يدرك ترامب معنى هذه المتغيرات والوقائع التي رتبتها، وإذا كان يعلم، وهو لا بد يعلم، فأين يستطيع تصريف طاقة العبث لديه، وأين يستطيع أن يكون تلك الشخصية المرعبة التي رسمها لنفسه؟ بل أين سيحقق الانسجام بين تهوره المفرط وحساباته الدقيقة للتكاليف، وهما العنصران اللذان شكّلا شخصيته وسلوكه؟!

تكشف خريطة مواقع القوّة في العالم وتموضعاتها الجديدة، طبيعة الطرق والمسالك التي سيضطر ترامب إلى السير بها في إدارة علاقات أميركا في هذه البيئة الدولية المتغيرة، فمع روسيا، ثمّة عوائق كثيرة تمنعه من الذهاب بعيداً في اللعب معها، إذ عدا عن ميله الشخصي للتصالح مع موسكو، فإن فلاديمير بوتين استطاع وضع ركائز قوية له في مناطق التماس مع النفوذ والمصالح الأميركية، في أوروبا والشرق الأوسط، سيضطر ترامب إلى اللعب تحت سقفها، كما سيضطر إلى تكييف تهديداته للصين التي بنت مجالاً من النفوذ والقوة في بحرها الجنوبي يصعب تفكيكه من دون المغامرة بخوض حرب مدمّرة، وحتى في الاتحاد الأوروبي سيواجه ترامب مشاغبات كثيرة من الداخل الأميركي تجبره على تعديل سياساته.

تبقى إيران خارج هذه المعطيات، لكن مواقف ترامب المتناقضة، إذا حصل وبنى سياساته تجاه إيران بالتطابق مع تصريحاته، فستكون سياسة مليئة بالثقوب التي تجعل إيران قادرة على استيعاب سلبياتها واستثمار الكثير من هفواتها، وبخاصة على صعيد نفوذها الإقليمي، فسياسة العقاب من جهة وإفلات زمام الأمور من جهة أخرى يعنيان أن إدارة ترامب ستتشدّد في القضايا التي تمس أمن إسرائيل وتترك لإيران الحبل على الغارب في سلوكها في العراق وسورية، بخاصة انها ستكون محسوبة على الطرف الذي يحارب «داعش» والذي يعتبره ترامب المهمة الأساسية له في الشرق الأوسط.

وحدها المنطقة العربية، بدولها ومكوناتها ونظامها الإقليمي، تدخل زمن ترامب من دون أوراق قوّة ولا قدرة على اللعب والمساومة، بل تقدّم نفسها لترامب، الذي لا يرحم الضعفاء، لتكون المساحة التي يهوى لممارسة بهلوانياته، وكما استخدمها بوتين مختبراً لأسلحته، لن يتوانى ترامب في استخدامها مختبراً لتجريب سياسات القوّة. هل نملك أكثر من الانتظار؟

المصدر : الحياة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى