فيما انشغل السوريون بشرح ثغرات الدستور الذي اقترحته روسيا على وفد الفصائل العسكرية الثورية في أستانة الشهر الفائت، ومدى التعدّي الروسي في هذا المقترح على السيادة الوطنية السورية، وبالسؤال عمن هم الذين كتبوا الدستور، وهل هم “منصة حميميم”، أم شاركهم آخرون؟ وبقي السؤال الأهم: لماذا اقترح الروس هذا الدستور الآن، من دون اهتمام يذكر، فقد أخذ على أنه مجرد دفع روسي للوصول إلى حل سياسي.
يعارض الروس، منذ بدء المفاوضات في جنيف 2 فكرة الإعلان الدستوي لتأسيس المرحلة الانتقالية، تجنباً للوقوع في فراغ قانوني (يصر الروس على تسميته فراغاً دستورياً)، ويصرّون على الانتقال من خلال الدستور القائم (دستور 2012) الذي فرض في ظروف معروفة تفقده أية شرعية، بحيث يتنازل الرئيس وفق المادة 114 منه عن جزء من صلاحياته لهيئة الحكم الانتقالي التي يسعى الروس لتغييرها أيضاً إلى “حكومة مشتركة”، انطلاقا من مفهوم “حكم ذي مصداقية” المنصوص عليه في قرار مجلس الأمن 2254، لكن هدف التمسك بهذا الدستور أساساً للانتقال السياسي إعادة الشرعية إلى نظام الأسد، وإبقاء الأسد رئيساً، ولو بصلاحيات محدودة، والانطلاق من هذا الدستور نحو آخر جديد يكرّس النظام.
العقبة الرئيسية أمام هذا التصور الروسي هي المعارضة السورية السياسية، ممثلةً، بشكل رئيس، في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة كما اتضح في “جنيف 2” في العام 2014، والذي أدى تمسكه بصيغة جذرية للانتقال السياسي إلى تجاوزه بمساع روسية لتشتيت المعارضة وتمزيقها، بإيجاد معارضات متعددة قريبة منها، حتى ولو لم تكن تتمتع بالمصداقية التي يتمتع بها “الائتلاف”، ولكن كثرتها ستجعل من الصعب تجاوزها. وأدت المساعي الروسية إلى تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات، انطلاقاً من بيان المجموعة الدولية لدعم سورية (ISSG) في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، إلا أن الهيئة، والتي نص بيانها التأسيسي على أن “هدف التسوية السياسية هو تأسيس نظام سياسي جديد من دون أن يكون لبشار الأسد وزمرته مكان فيه”، تمسكت، هي الأخرى، ببيان جنيف الذي يتمتع بمرجعيةٍ دوليةٍ، أساسها قرار مجلس الأمن 2118، وبتشكيل “هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات”، و”عملية سياسية لا جود لبشار الأسد فيها”، كما اتضح أيضاً في “جنيف 3” في 2016، في وثيقة الهيئة للإطار التنفيذي لبيان جنيف (22-4-2016). وحاول الروس عبر المبعوث الأممي، ستيفان ديمستورا، وعبر فريقه الاستشاري ومساعديه، إقناع المعارضة بأن الرجوع إلى دستور 2012 أفضل خطوة، وقدّم لهذا الهدف مسشاروه القانونيون للمعارضة مقترحاً تفصيلياً (على شكل دراسة) حول كيفية “تشكيل هيئة حكم انتقالي في ظل دستور 2012″، اعتماداً على المادة 114، على الرغم من أن المعارضة لم تطلبه من الأساس.
ما يريده الروس فعلياً هو إعادة الشرعية لنظام الأسد ومؤسساته، وإبقاء الأسد رئيساً أطول فترة ممكنة، ولا سبيل للوصول إلى هذه الشرعية المسترجعة إلا عبر ثلاث خطوات:
الأولى، إبقاء بشار الأسد رئيساً شرعياً في الفترة الانتقالية أطول مدة ممكنة، ما يضفي شرعية كاملة على جميع تصرفاته رئيساً في الفترة السابقة، ويسقط مفهوم الثورة من الأساس، باعتبار الثورة رفضاً جذرياً لشرعية النظام، وسعياً إلى تغييره كلياً سلميا أو بالقوة. الثانية، الحفاظ على النظام باسم الحفاظ على الدولة، وهو يتطلب احتفاظ الأسد بالسيطرة على مؤسستي الجيش والأمن، وهما فعليا ما يتجسد بهما النظام، والاكتفاء ببعض التغييرات الإصلاحية فيهما. الثالثة، عودة الأسد رئيساً منتخباً لسورية بعد المرحلة الانتقالية.
يتطلب هذا أن يضمن الروس عدم وجود عقبة لبقاء الأسد بعد المرحلة التحضيرية الانتقالية (6 شهور)، أي أن يبقى طوال الفترة الانتقالية، مهما كانت مدتها، والسماح لبشار الأسد بدخول الانتخابات الرئاسية، وهو أمر يتطلب اختصار المرحلة الانتقالية أو دمج المرحلتين بمرحلة واحدة طويلة، وهو الأفضل بالنسبة للروس الذين وجدوا فرصتهم في تغير موازين القوى على الأرض، وانشغال الأميركيين بالانتقال إلى إدارة جديدة، وحاجة الأتراك لهم لإفشال مشروع الإقليم الكردي على الشريط الحدودي الجنوبي، باعتباره خطراً يهدد الأمن القومي، وتقليص النفوذ الإيراني في سورية لإيجاد مسار تفاوضي جديد، يتجاوز المعارضة السياسية عبر الفصائل العسكرية الثورية (المعارضة المسلحة)، إذ تملك تركيا القدرة على التأثير على كثير من هذه الفصائل، وهو أمر قد يسمح بإيجاد كتلة حرجة، يمكن أن تجر معها الفصائل الأخرى، بالاستفادة من العلاقة السيئة بين العسكر والسياسيين السوريين في المعارضة، وستؤدي، بالضرورة، إلى إطاحة الهيئة العليا للمفاوضات والأجسام السياسية للثورة، وتجاوزها عقبة أمام حل سياسي يناسب روسيا في ظل انتقال الإدارة في الولايات المتحدة أولاً، ثم عدم اتضاح سياسة إدارة ترامب تجاه سورية ثانياً.
يستعجل الروس تحويل “أستانة” إلى منصة للفصائل العسكرية، وإحداث مسار جديد للتفاوض، أطلق عليه وزير الخارجية سيرغي لافروف “مسار أستانة”، وهو أمر يتيح للروس إقامة قواعد جديدة، وهي التفاوض في ظل التهديد بالقوة على الأرض، كما أنه، في أسوأ الأحوال، إن لم يصبح مساراً جديداً يكفي أنه أوجد منصة للعسكر، موازية، من حيث القوة، للهيئة العليا للمفاوضات. وبالتالي، يمكن أن تضعف مصداقيتها، وتغير في قواعد التمثيل للمعارضة، وهو أمر يساعد على تحقيق استراتيجية روسيا في إيجاد معارضات تشتّت المعارضة الأساسية، وتشوش عليها، وتسمح بإيجاد وضع قانوني لها، من خلال اعتبارها في القرارات الدولية، كما هو الحال في قرار مجلس الأمن 2254 الذي أشار إلى مجموع المنصّات التي شكلتها موسكو (القاهرة، أستانة، منتدى موسكو) باستنثاء منصة حميميم التي تمثل أكثر النسخ فجاجةً في تمثيل النظام باسم المعارضة!
الحاجة إلى هذه المنصات المتعدّدة هي حاجة روسيا إلى إضعاف صوت المعارضة الرئيسي، وتحويلها إلى طرف من أطراف متعدّدة. حاولت روسيا الإسراع بإنشاء هذا الخلط في موسكو (29 يناير/ كانون الثاني 2017) بما سمته “الوفد الموحد للمعارضة السورية”، لكن عدم ذهاب الائتلاف الهيئة العليا للمفاوضات أفشل ذلك، ومن الواضح من تركيبة المقترح الروسي للوفد الموحد أن الهدف أن يكون صوت الهيئة العليا والائتلاف منخفضاً للغاية، 2 من أصل 10، والغرض واضح، تمرير الخطة الروسية في مجلس الأمن عبر اتفاق يوقعه الطرفان، النظام و”المعارضات”، تتم المصادقة عليه في مجلس الأمن بسهولة.
واستعجل الروس طرح الدستور المقترح على وفد الفصائل العسكرية الثورية في أستانة قبل اجتماع موسكو، ووزعوا الدستور على “الوفد الموحد” في موسكو، بغرض تحويله إلى مادة للنقاش مع أو ضد، المهم أن يكون محور نقاش، وإذا ما أجريت عليه بعض التعديلات، فإن في الوسع الحفاظ على بنيته الأساسية. ويطمح الروس أن تتبنى معارضتها التي شكلتها خلال السنوات الماضية مشروع الدستور، وتمرير الدستور عبر موافقة أغلبية المعارضة من خلال قرار لمجلس الأمن، إذ يبدو أن الروس اعتقدوا بإمكانية دفع المفاوضات في مجلس الأمن عبر مسار أستانة، لكنهم وجدو ذلك شبه مستحيل، فليسوا هم اللاعب الوحيد المؤثر في سورية. هكذا اضطر الروس للتعويل على جنيف مرة أخرى، مع الإصرار على الاستفادة من المنصات التي أوجدتها، لتمرير اتفاق سياسي يتضمن الدستور. ومن المعلوم أن مسودة الدستور تمنح فرصة للأسد للبقاء في السلطة إلى 16 عاماً، المهم في الدستور نقطتان: الأولى بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية كاملة، والثانية حقه في الترشح للانتخابات بعد المرحلة الانتقالية، وهو ما يتيح له البقاء إلى “الأبد” فعليا.
لكن تمرير الدستور في اتفاق في مجلس الأمن يتطلب تجاوز عقبة نص عليها القرار 2254، وهي أن الدستور يُصاغ خلال المرحلة الانتقالية، أي بعد الاتفاق وليس قبله، فمسؤولية “الحكم ذي المصداقية” الانتقالي هي “تحديد جدول زمني” ونظام “عملية لصياغة دستور جديد”، وتجاوز العقبة هذه ممكن من خلال موافقة المعارضة على نقاش الدستور، قبل التوقيع على الاتفاق السياسي، وإمكانية أن يكون جزءا من الاتفاق، مجرّد موافقة المعارضة على ذلك يكفي، هذا هو الحد الأدني الذي يمكن أن يمثل وحده مكسباً في طرح مقترحهم للدستور.
ما يمكن أن يفشل المساعي الروسية وشركائها هو رفض الفصائل والهيئة العليا للمفاوضات والائتلاف الوطني أي مناقشة للدستور من أي نوعٍ كانت، والاستقواء بالهيئة العليا للمفاوضات والانطواء تحتها في أي مفاوضات في جنيف، باعتبارها المظلة الوحيدة للمعارضة، وعدم الحضور في جنيف إلا إذا كانت الهيئة العليا للمفاوضات هي الجهة الوحيدة مقابل النظام، إعادة بناء الوفد المفاوض بتمثيل أكبر، والإصرار على الإعلان الدستوري، وعدم قبول الانتقال السياسي اعتمادا على دستور النظام، والتمسّك بعدم قبول بقاء بشار الأسد لأي مدة في الفترة الانتقالية.
المصدر : العربي الجديد