وزعت روسيا على أعضاء المعارضة السورية المسلحة الذين شاركوا في محادثات آستانة مسودة دستور جديد لسورية وضعته موسكو «لتسريع المفاوضات السياسية لإنهاء الصراع» وفقاً لمبعوث الكرملين.
والسؤال هنا: لماذا قررت روسيا أن تبدأ من نقطة بالغة الحساسية بالنسبة الى أية أمة، فأي دستور لأية دولة إنما يعكس قيمها الأساسية، وخصوصاً أن روسيا تكرر في كل مرة منذ بدء الانتفاضة السورية في عام 2011 أن الأمر متروك للشعب السوري وتصرّ في كل فرصة على أن الحل يجب أن يكون سورياً من خلال تسوية سياسية وحصرية من جانب السوريين.
ثم كيف تأتي روسيا وتقدم على صياغة «دستور سوري» وتسأل السوريين مناقشته والموافقة عليه؟
أعتقد أن كل السوريين الذين سمعوا بهذا الخبر شعروا بالإهانة، فروسيا اليوم لا تتدخل لحساب نظام الأسد وإنما تتصرف بوصفها قوة احتلال، وتستخدم القوة لفرض رغبتها العسكرية والقوة ذاتها لرغبات أحلامها السياسية.
لقد أعد هذا الدستور من جانب «خبراء روس» بعد يومين من المحادثات غير المباشرة بين المعارضة المسلحة السورية وممثلي النظام، من دون إشارة لوجود اختراق للتوصل إلى تسوية سياسية أوسع لإنهاء الحرب، ومن كان يتوقع غير ذلك؟
ثم فجأة قررت روسيا عدم التركيز على تنفيذ وقف إطلاق النار في جميع أنحاء سورية حيث انتهكته حكومة الأسد كل يوم تقريباً بخاصة في منطقة وادي بردى وضواحي دمشق، ولم تعد تركز على بنود الاتفاق بين روسيا وتركيا الذي قبلته المعارضة على أمل بأن يحدث فرقاً على الأرض من خلال التطبيق الكامل لوقف إطلاق النار. بدل التركيز على ذلك فضلاً عن قضايا أخرى تشكل أولوية للسوريين اليوم مثل اللجوء والوضع الإنساني، فإن روسيا قفزت وعملت على صياغة دستور ووضعته تحت تصرف الشعب السوري.
أقرت سورية ما لا يقل عن 12 دستوراً منذ الاستقلال عام 1946، عندما انسحب آخر جندي فرنسي من الأراضي السورية، وكان الرئيس شكري القوتلي، أول رئيس لسورية بعد الاستقلال عمل على تعديل الدستور وتغيير النظام الانتخابي في عام 1949 للسماح بانتخاب الرئيس مباشرة من الشعب بعد انتهاء فترة ولايته الأولى. ثم أتى حسني الزعيم بأول انقلاب عسكري يوم 30 آذار (مارس) 1949، وعلق الدستور.
في آب (أغسطس) 1949، قاد سامي الحناوي انقلاباً عسكرياً آخر، ثم دعا إلى انتخاب جمعية تأسيسية لصياغة دستور جديد. وصدر قانون جديد لانتخاب هذه الجمعية، وشاركت المرأة السورية في التصويت للمرة الأولى. دستور عام 1950، المعروف أيضاً باسم دستور الاستقلال، يمثل تطوراً ديموقراطياً حقيقياً في تاريخ الحياة السياسية السورية. فقد منح هذا الدستور صلاحيات واسعة لرئيس الوزراء، وفي الوقت نفسه حدّ من صلاحيات رئيس الجمهورية. وعزز الدستور أيضاً سلطة القضاة. وكذلك ديموقراطية الدولة والمؤسسات، من خلال إنشاء المحكمة الدستورية العليا. كان دستور 1950 متقدماً جداً في ما يتعلق بالحقوق والحريات العامة المبنية على أساس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في عام 1948 وهو بذلك يعد أول دستور ديموقراطي في المنطقة العربية في تلك الفترة.
لذلك وحتى اليوم، فإن سوريين كثيرين – وخصوصاً المعارضة السورية- لا يزالون يعتقدون بأن دستور 1950 سيكون أفضل نموذج اليوم لعودة سورية إلى الجمهورية والديموقراطية. وهذا ما حدث في الحقيقة مرتين. بعد الانقلاب العسكري الذي قاده اللواء الشيشكلي في عام 1949 علق الشيشكلي ذلك الدستور حتى صدر دستور جديد في عام 1953. واتسم هذا الدستور بوصفه الدستور الرئاسي الأول. حيث قيد صلاحيات رئيس الوزراء في الحكومة وأعطى صلاحيات تنفيذية واسعة لرئيس الجمهورية مبنية على أساس نظام رئاسي يشبه نظيره في الولايات المتحدة الأميركية. ومع إطاحة الانقلاب عام 1954 أعيد العمل بدستور 1950.
ومرة أخرى في عام 1958، تم تعليق الدستور عندما صوت السوريون بالغالبية للوحدة مع جمهورية مصر تحت رئاسة جمال عبد الناصر لتشكيل الجمهورية العربية المتحدة. تم استبدال دستور 1950 بدستور موقت صاغه عبد الناصر في تلك الفترة. ولكن تم إلغاء هذا الدستور بعد الانفصال في عام 1961. وقررت الحكومة الجديدة عام 1962 العودة إلى دستور عام 1950 حتى تتم صياغة دستور جديد.
وبطبيعة الحال، عندما وصل حزب البعث إلى السلطة من خلال انقلاب عسكري في آذار 1963 تم وقف العمل بالدستور على الفور، وفرضت حالة الطوارئ (التي لم ترفع حتى بعد اندلاع الثورة السورية في آذار 2011). وأصدر المجلس الوطني لقيادة الثورة دستوراً موقتاً للبلاد عام 1964، ثم دستوراً آخر عام 1969 ودستوراً جديداً بعد أن تولى حافظ الأسد السلطة عام 1971.
وفي عام 1973، شكل حافظ الأسد لجنة لصياغة دستور دائم للبلاد. هذا الدستور الذي اعتمد عبر استفتاء شعبي، فرض أفكار ومبادئ حزب البعث على المجتمع السوري، حيث أعلن أن حزب البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع، وأعلن أنه الحزب الوحيد الذي يحق له ترشيح الرئيس من خلال القيادة القطرية وكان هذا بداية نظام استبدادي طويل يديره حزب البعث كغطاء لسلالة الأسد.
المصدر : الحياة