مقالات

سمير صالحة – في استهداف الروس جنوداً أتراكاً

عندما اقتربت عقارب الساعة من التاسعة إلا ربعاً صباح التاسع من فبراير/ شباط الحالي كانت مقاتلة روسية تقلع من قاعدة حميميم السورية، لتنفذ أوامر صادرة لها بمهاجمة مجموعةٍ يفترض أنها عناصر لتنظيم داعش في قلب مدينة الباب التي تعمل القوات التركية بالتنسيق مع الجيش السوري الحر على استردادها من التنظيم منذ أشهر.

أنجز الطيار مهمته، لكنّ المستهدفَ، كما أعلن مساء اليوم نفسه، وبعد ساعات من التعتيم على العملية، كان الجنودَ الأتراكَ الموجودين في المبنى، حيث سقط منهم ثلاثة قتلى و11 جريحاً. هي العملية الثانية التي يتم فيها استهداف الجنود الأتراك هناك. الأولى في 6 ديسمبر/ كانون الأول المنصرم، وسجلت ضد مجهول. وهذه هي الثانية في المكان نفسه، لكن الروس هم من نفذوها هذه المرة.

اتصال هاتفي مطول بين الرئيسين الروسي والتركي يكاد ينهي المسألة حبّياً على أنها هجوم خاطئ غير متعمد، لكن تصريحات روسية تظهر، في صباح اليوم التالي، باتجاه تصعيدي تحمّل القيادة العسكرية التركية المسؤولية بإرسال الجنود الأتراك إلى مكان من المفترض ألا يكونوا فيه.

لو كان توصيف استهداف الجنود الأتراك في مدينة الباب السورية، حقا، “نيراناً صديقة” لما كانت موسكو فجّرت نقاشا سياسيا مع أنقرة حول المسؤول عن الحادثة وأسبابها محاولة رمي الكرة على هذا النحو في ملعب الأتراك. هي ليست مسألة عابرة وخطأ فنياً، حسب الروس والأتراك، على الرغم من أن الطرفين يعملان على قطع الطريق على مزيد من التصعيد والتوتر. كيف تغامر القيادة الجوية الروسية بإعطاء أوامر لطياريها بذريعة مهاجمة مواقع لـ “داعش” في عملية من هذا النوع، وهي تعرف أن القوات التركية تخوض حرب شوارع ضد مجموعات التنظيم، وأن التنسيق العسكري مسألة محسومة في ظروفٍ من هذا النوع؟

القراءة الأولى في أسباب “الاعتداء الروسي” على الجنود الأتراك من دون التعرّض لأي موقع توجد فيه قوات الجيش السوري الحر قد تقود إلى نتيجة فورية، تتلخص بأنها عملية مقصودة مدبرة ومعدّة جيداً، سببها الانزعاج والقلق الروسي الإيراني من التحرّكات التركية الإقليمية والدولية أخيراً. وأن قرارا روسيا إيرانيا هو الذي أدى إلى توجيه هذه الرسالة المشتركة، بعد جملة من التحرّكات الإقليمية، كان مركزها أنقرة، في الأسبوعين الأخيرين، بينها الاتصال الهاتفي المطوّل بين الرئيسين، التركي رجب طيب أردوغان والأميركي دونالد ترامب، ووصول رئيس جهاز الاستخبارات الأميركي الجديد، مايك بومبيو، إلى تركيا، لمناقشة ملفات ثنائية وإقليمية كثيرة، تفتح الطريق أمام عودة العلاقات التركية الأميركية إلى سابق عهدها، وهو تحرّك أميركي تزامن مع وصول وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، إلى أنقرة، وسبقه تحرّك ألماني بريطاني إماراتي رفيع، ثم توج بجولة خليجية لأردوغان تشمل البحرين والسعودية وقطر.

موسكو وطهران ستغضبان حتما عندما يسمعان المتحدّث باسم رئاسة الجمهورية التركية، إبراهيم كالين، يعلن أن بلاده قدمت خطة إلى الولايات المتحدة بخصوص كيفية طرد عناصر تنظيم داعش الإرهابي من محافظة الرقة، خصوصا إذا ما جاء ذلك من دون علم روسيا أو بالتنسيق معها. فلم لا تكون عملية مهاجمة الجنود الأتراك في الباب رسالة روسية مختصرة إلى أنقرة؟

حقيقة أخرى، في الاتجاه المعاكس هذه المرة، وهي أن يكون الدرس الأول الذي تعلمناه من عملية مهاجمة الجنود الأتراك في الباب هو أن ما يريده، ويحاول أن يفعله الرئيسان التركي والروسي، في رسم مسار العلاقات بين بلديهما، يتعارض مع رغبة قوى وأجهزة عميقة داخلية، تختلف حساباتها وقراراتها عما يقوله أردوغان وبوتين.

حمّلت أنقرة مسؤولية إسقاط المقاتلة الروسية في المتوسط في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 لجماعة الكيان الموازي، المحسوبة على فتح الله غولن التي كانت تخطط لضرب العلاقات التركية الروسية باسمها، ونيابة عن بعضهم، وهي كرّرت فعلتها هذه مع عملية اغتيال السفير الروسي، أندريه كارلوف، في أنقرة في 19 ديسمبر/ كانون الأول المنصرم. ويرى بعضهم في موسكو أنه لا بد من الرد على الأتراك الذين يتلاعبون بكرامة الروس وحضورهم الإقليمي، وأن الرد ضرورة هنا، لأن الاعتذار والأسف غير كافيين لإقناع القوميين والمتشدّدين الروس الذين أغضبهم استهداف الأتراك رموزهم العسكرية والدبلوماسية مرتين خلال أقل من عام. وها هم يستغلون الفرصة المناسبة للتحرّك، خصوصا وأن المعطيات كلها تقول إن تبرير الهجوم الجوي الروسي على هذا النحو لن يقنع أحداً.

عندما يحمّل ديمتري بيسكوف، الناطق الرسمي باسم الكرملين، أنقرة المسؤولية المباشرة عن الحادثة، ويعلن أن موسكو نسّقت مع تركيا، ونفذت الغارة، بعد أن أخذت إحداثيات الأماكن التي يوجد فيها الجنود الأتراك منها مباشرة. وعندما يأتي كلامه هذا، بعد اتصال مطول بين بوتين وأردوغان، ناقش ما جرى باتجاه تضييق الخناق على المسألة، وقطع الطريق على تضخيمها وتحميلها سيناريوهات سوداوية مبالغ فيها، وعندما يردّ عليه رئيس الأركان التركي، خلوصي آكار، في اليوم التالي، بشكل مفصل، يفنّد المزاعم الروسية، ويقول إن الجنود الأتراك الذين تعرّضوا للقصف الروسي في مدينة الباب السورية كانوا متحصّنين في المبنى منذ أكثر من عشرة أيام، وأنّه تمّ تزويد الروس بإحداثيات الأماكن التي توجد فيها القوات التركية بشكل منتظم منذ أكثر من شهر، استناداً إلى الاتفاقية التي أبرمت بين الطرفين في 12 يناير/ كانون الثاني الماضي، فإن الموقف الروسي والرد التركي يحمل معه أكثر من تساؤل: ألم يكن الإعلان عن تشكيل لجنة تحقيق مشتركة تعمل أسابيع مثلا، ثم تخرج علينا بتقرير يقول إن الاعتذار الروسي الرسمي كافٍ لإغلاق الملف، وتقديم ما جرى خطأ غير متعمد، حلا مرضيا للجانبين؟

لماذا رجّح بعضهم في روسيا تحميل الأتراك المسؤولية بهذا الشكل الرسمي والعلني، من دون التريث حتى لإنجاز التحقيقات الأولية في البلدين؟ هل هي مصادفة فقط أن نرى قوات النظام السوري، بالتنسيق مع مجموعات حزب الله اللبناني، تتقدم إلى الباب، في محاولة للسيطرة عليها، وهي تعرف أن القوات التركية تريدها أن تكون جزءا من مشروع المنطقة الآمنة، وعملية درع الفرات؟ هل هناك من يخطط، مثلا، لمواجهةٍ بين القوات التركية والقوات المتقدّمة من الجنوب، غير عابئ أن تتحوّل المواجهة إلى صدام عسكري تركي إيراني، تمهد له “غارات خاطئة” من هذا النوع؟

تبني الكرملين ما قامت به المقاتلة الروسية قبل أيام، والرد التركي عبر الرئيس أردوغان الذي كرّر ما قاله رئيس الأركان في تحميل المسؤولية للروس مباشرة، يذكّرنا بما فعله رئيس الوزراء التركي السابق، أحمد داود أوغلو، الذي قال دفاعا عن الضابط الذي أسقط المقاتلة الروسية إنه هو الذي أعطى الأوامر، بدلا من التريّث والتهدئة. الجناح القومي المتشدّد في البلدين أو لعب ورقة الجلوس في هذه المدرجات قد يكون هو الغالب أحيانا، والذي يترك القيادات السياسية في الجانبين أمام خيار المضي حتى النهاية وراء ما يُقال.
لم يحصل الجناح القومي الروسي على الأجوبة التي يريدها حول قتل السفير كارلوف، وهي ضربة أخرى بعد إسقاط الطائرة، وكان لا بد من ارتكاب “هذا الخطأ” المقصود، والدفاع عنه بشكل علني رسمي، ربما لتتساوى الأمور، وتكتمل عملية تبادل الرسائل بين أنقرة وموسكو؟

المصدر :العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى